يُقدِّمُ الجوار المغربي الجزائري صورة نموذجية عمّا يمكن وسمُه «صراع الإخوة الأعداء». فالبلدان يشتركان في كل شيء: في الدين والتاريخ واللغة، وفي الآمال والتطلعات والمصير المشترك. أما التمازج البشري، والعائلي، والوجداني، فلا حدود له.. إننا في الواقع أمام مفارقة غريبة يصعب على عاقِل من البلدين قبولها واستيعاب مفاعيلها السلبية. ولشدة غرابة هذه المفارقة يُصاب القارئ بالذهول حين يعرف أن من أصل ثلاث وخمسين سنة مرت على استقلال الجزائر ) 1962 2015(، ظلت الحدود البرية مُغلقة بين البلدين مدة أربعين سنة، ومازالت إلى يومنا هذا على حالها من جانب واحد، أي الطرف الجزائري. لماذا ظلت الحدود المغربية الجزائرية مُغلقة أربعة عقود، ولا يُعرَفُ على وجه اليقين متى يُفرَج عنها لتُفتح أمام الشعبين الشقيقين؟ وكيف نُفسر «صراع الإخوة الأعداء» الذي لازمَ البلدين منذ استرجاع استقلالهما الوطني؟ وما السبيل لتحويل كُلفة عدم البناء إلى قوة لدعم البناء المشترك وتعظيم أرصدة إنجازاته الجماعية؟ يُعتبر التاريخ، والتاريخ الاستعماري تحديدا، أحد المصادر القوية لتفسير صراع المغرب والجزائر. فممَّا تثبته الوثائق التاريخية، وهي مُتاحة أمام الباحثين، أن فرنسا أعادت رسم الحدود بين مستعمراتها بشكل غير متوازن، وبطريقة فيها الكثير من الإجحاف والغُبن بالنسبة إلى البعض تجاه البعض الآخر. ولأن العقيدة الاستعمارية الفرنسية حتى أربعينيات القرن العشرين لم تكن تظن أنه سيأتي يوم تُغادر فيه الجزائر، فقد اقتطعت بغير حق أطرافا من التراب المغربي والتونسي وضمتها قسرا إلى الجزائر، التي تحولت في دستور الجمهورية الثالثة ) 1875( إلى مقاطعة فرنسية لما وراء البحار. وحين نالت بلدان المغرب استقلالها، وانقسمت القارة الإفريقية حول مبدأي «عدم المسّ بالحدود الموروثة من الاستعمار» و»استرجاع الأراضي المقتطعة من طرف فرنسا»، أي مبدأ «الوحدة الترابية»، انتصرت الجزائر للمبدأ الأول، وتنكرت للاتفاقات والعهود المبرمة بينها وبين المغرب، ومن هنا بدأ الصراع بين البلدين.. نحن إذن أمام صراع تاريخي لعب الاستعمار دورا مركزيا في صناعته، ولم تتمكن الحكومات الجزائرية المتعاقبة على تجاوزه بما يخدم عدالة الوحدة الترابية المغربية. يجد الصراع المغربي الجزائري مصدره الثاني في مناكفة الجزائر المغرب في ملف استرجاع أقاليمه الجنوبية المحتلة من طرف إسبانيا. فمنذ أربعين سنة ) 1975 2015( وحتى الآن، استثمرت الجزائر كل إمكاناتها لإعاقة استكمال المغرب وحدته الترابية، بخلق ما سُميّ «الجمهورية الصحراوية»، أي «البوليزاريو»، وإيوائها في مدينة تندوف، وهي الأخرى من الجيوب المقتطعة من التراب المغربي، ودعمها ماليا وعسكريا ودبلوماسيا. أما حجتها في ذلك، فهي «احترام حق الشعوب في تقرير المصير»، الذي ألبسته لباسَ حقّ يُراد منه باطل. يكتسي المصدر الثالث للتفسير طابعا سياسيا وإيديولوجيا، يتعلق بما اعتبرته النخبة السياسية القائدة في الجزائر اختلافا في التوجهات السياسية والإيديولوجية بينها وبين المغرب.. فقد دافعت طيلة سيادة الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، على شعارات ومقولات ذات منحى اشتراكي وشعبوي، ونعتت المغرب بالمحافظة والانحياز للغرب ومنظومته، لتخلُص إلى أن التجربة المغربية في البناء الوطني بعد الاستقلال تعوق إقامة علاقات مستقرة ودائمة بين البلدين. والحقيقة أن مآلات البناء الوطني في الجزائر أثبتت جسامة عدم صحة هذه التصورات، وأنها كانت نظرة إيديولوجية مُضلِّلة ليس إلا. ثمة مصدر آخر للتفسير يتعلق بانحسار عملية الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي في الجزائر، على الرغم من الهبّات الاجتماعية التي شهدها البلد منذ أكتوبر 1988، والمطالبات المتصاعدة بإعادة بناء الشرعية المتآكلة منذ سنوات. والحقيقة أن حصول تطورات ديمقراطية فعلية وعميقة في الجزائر، ستساعد على إخراج الصراع المغربي الجزائري من المأزق، وستضعه على طريق البناء المشترك المُثمِر والفعال، لسبب طبيعي هو أن إقامة مؤسسات ديمقراطية ستُخرج ورقة الصراع المغربي الجزائري المفتعل من دائرة التوظيف الإيديولوجي، وستسمح للهيئات التمثيلية، أي للمواطنين الجزائريين، من قول كلمتهم في ما يجب أن تكون عليه علاقة الجوار مع المغرب. لقد زرت هذا البلد الشقيق مرات عديدة، وتشرفت بالتعرف على نخبته الجامعية والأكاديمية واشتغلت إلى جانبها علميا في أكثر من مكان، وعلى أكثر من موضوع..وقلما وجدت من بين هؤلاء الذين تعرفت عليهم من يتبنى أو يدافع عن مصادر توتر العلاقات المغربية الجزائرية، بل إن كلمة واحدة ظلت على لسانهم: من المستفيد من صراع الإخوة في المصير المغربي الجزائري المشترك؟