بحلول السادس من نونبر 2015 تكون قد مرت أربعون سنة على مسيرة استرجاع الأقاليم المُستعمَرة في جنوب المغرب. فهي كلمة خفيفة في اللسان، ثقيلة في الميزان: ميزان الجهود والصبر والتضحيات التي قدمها المغاربة بإرادة جماعية، وباقتناع مشترك بعدالة قضيتهم. فإذا أخذنا الجيل بالمعنى الذي حدده ابن خلدون، أي أربعون عاما، فإن جيلا بكامله يكون قد انقضى على بداية مسيرة التحرير، وبدأ جيل جديد في الانطلاق.. والحقيقة أن جيلا من أربعين سنة كان كافيا لتبلغ قضية التحرير درجة الاكتمال والنضج كما ورد في الخطاب الملكي لهذه المناسبة. لا يختلف اثنان في أن مرور أربعة عقود على حدث المسيرة الخضراء لم يكن زمنا خطيا، أو تعاقبا جامدا للأعوام والسنين، بل كان تطورا حافلا بالبناء والإنجاز، وفي الوقت ذاته كان مسارا مفعَما بالصعوبات والتضحيات، إذ ظل المغاربة خلاله موحّدين ويقظين، ومستعدين للحوار والانفتاح بما يخدم تطور قضيتهم، ولا يَضرّ بعدالتها. لذلك، أنجز المغرب، بكُلفة ليست بالهينة، عملية مزدوجة، تمثلت في التغيير الإيجابي لربوع الأقاليم المسترجعة، وفي الآن معا ساهم بشكل عملي في إيجاد صيغ وحلول خلاّقة للخلافات المفتعلة حول قضية التحرير. ليس مطلوبا من المغرب الدفاع عن الإنجازات التي قام بها بفعل تضحيات كل أبنائه طيلة أربعة عقود، فحواضرُه ومدنُه الجنوبية شاهدةٌ على واقع هذه الإنجازات، ومن زارها أو سيزورها يلمس ذلك ويُقر بحقيقة هذا الواقع. ثم إن للمغرب خططاً واستراتيجيات تروم نقل الجهات المُسترجعة إلى مرحلة جديدة تتلاءم مع تطلعات المغرب في الألفية الثالثة. لذلك، بسَط الخطاب الملكي الأخير الآفاق التي تنتظر الأقاليم الجنوبية، سواء بالنسبة إلى الرؤية الجديدة للتنمية، أو في ما يتعلق بالجهوية المتقدمة. من عناصر قوة النضج، الذي عبر عنه الخطاب الملكي، أن المغرب لم تعد له عقدة الاعتراف بالأخطاء أو التعثرات عندما تحصل، بل أصبح قادرا على إقرارها والاقتدار على تجاوزها إيجابيا. لهذا، شدد الخطاب على ضرورة تطبيق نموذج جديد للتنمية في الأقاليم الجنوبية يقطع مع النموذج السابق، بمقومات ومواصفات تُمكِّنه من تحقيق القطيعة مع الماضي، وعلى رأسها الحرص على تكافؤ الفرص والإمكانيات بين مختلف ساكنة هذه الأقاليم، والعمل على تكريس عدالة توزيع الخيرات والثروات، وعدم السماح باحتكار الامتيازات لصالح فئة على حساب فئات أخرى. إن المتأمّل في عمق فلسفة هذا النموذج الجديد، الذي لعب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي دورا مركزيا في هندسة بنائه وصياغة مضمونه، يُدرك أبعاد التغيير الهادئ الذي يروم المغرب إحداثه في هذه الربوع. وهو تغيير سيكون له الأثر البالغ على تقوية لُحمة الأقاليم الجنوبية، وتعزيز ولائها الوطني، وتعظيم شعورها بالانتساب إلى إطارها التاريخي والسياسي المغربي. ثم إن أي تقدم في نجاح النموذج التنموي الجديد بالمقومات والمواصفات المشار إليها، سيُضعِّف الأصوات المناوئة للمغرب، وسيحفز المترددين أو المغرر بهم إلى التصالح مع وطنهم، والعودة إلى العيش في كنفه. أما الجهوية المتقدمة، فهي الإطار الدستوري والترابي الذي سيُعزِّز الرؤية الجديدة التي بسط الخطاب الملكي أهم عناصرها، والتي وسمها بمرحلة «النضج». لذلك، ستمكن الجهوية، بحسبها توزيعا جديدا للسلطة، الأقاليم الجنوبية وعموم الأقاليم المغربية، من اكتساب القدرة على التدبير، وصنع السياسات المحلية، ومراكمة الإنجازات، وستجعل منها أقطابا للتنمية، وروافد فعلية للاقتصاد الوطني. والحقيقة أن مشروع الجهوية، إن هو أخذ طريقه إلى النجاح ويجب أن يكون كذلك سيُعيد تشكيل صورة المغرب في الألفية الجديدة، وسيمكن المغاربة من كل شروط النماء والرفعة، وسيجعلهم مبادرين ومشاركين ومسؤولين عن إراداتهم. يمكن اليوم، وبعد مرور أربعة عقود على حدث المسيرة، واسترجاع الأقاليم الجنوبية المستعمرة، أن نقول إن تضحيات المغاربة، وهي كبيرة وضخمة، لم تكن ذات اعتبار، بل بالعكس مثلت مرحلة فارقِة في تاريخ المغرب الحديث، عبرت عن قدرة المغاربة على الاستمرار أوفياء لعدالة قضيتهم الترابية، وفي الوقت ذاته، مستعدين للبحث عن سُبل الحل الخلاق وغير المُهدِر لحقوقهم.