لم يكتف الخطاب الملكي ليوم التاسع من أكتوبر 2015 برسم خريطة عمل البرلمان لما تبقى من عمر الولاية التشريعية الحالية فحسب، بل شمل رسائل وتوجيهات وتنبيهات عديدة للبرلمان والحكومة على حد سواء، وللأغلبية والمعارضة أيضا، وللنخبة السياسية المغربية، عسى أن تستنهض همّتها، وتعيد صياغة علاقتها بالشأن العام ومنهجية تدبيره. والحقيقة أن الخطب الملكية منذ مطلع العُشرية الأولى من الألفية الجديدة لم تخل من هذه الروح: روح الدعوة إلى تجديد النظر، والاجتهاد في أساليب العمل، والحرص على رفع الأداء، واستهداف الفعالية والنجاعة، والاستثمار الأمثل للإمكانيات والوقت، وحُسن رسم الأولويات وترتيبها..وكلها معالم لاستدراك الوقت الضائع، والحثِّ على التكاتف من أجل نسج ثقافة سياسية جديدة، تفتح آفاق ممكنة لبناء عقلية وممارسة جديدتين مغايرتين لما دأبت النخبة السياسية المغربية على السير على نهجه. ثمة رسائل قوية في الخطاب الملكي الافتتاحي للبرلمان، عكستها العديد من التعبيرات والمصطلحات، وقد وردت صريحة في الكثير من المقاطع، وجاءت ضمنية وغير مباشرة في القليل منها. فهكذا، تمّ التنبيه إلى نبذ «البكاء على الأطلال»، والبحث عن الأعذار والمبررات. ثم ليس أمام المغرب، وهذه رسالة أخرى، سوى خيار واحد، يتعلق باستكمال بناء الجهات، لتكون مؤسسات فعالة وناجحة، ولتُرسي ثقافة المؤسسية، وتُضعف هيمنة الأشخاص وديمومتهم. في الخطاب الملكي، أيضا، تشديد على نُبل وظيفة التمثيل والوساطة، وقيمة الواجب، وفضيلة النقد الذاتي والمساءلة. ولعل أفحم وأقوى ما ورد في خطاب افتتاح البرلمان تأكيده على ضرورة التكامل بين مجلسي البرلمان، وأهمية الحوار بين الأغلبية والمعارضة، واستراتيجية تحويل مؤسسة البرلمان إلى فضاء للحوار والتداول حول القضايا الفعلية للمواطنين، والتباري الإيجابي من أجل إيجاد حلول ناجعة لها، أي صناعة سياسات عمومية كفيلة بانتزاع شرعية المواطنين وقبولهم. تَضمّن الخطاب الملكي تنبيهات واضحة إلى النصوص المُهيكِلة التي مازالت تنتظر الخروج إلى الوجود، وهي في مجملها ليست من طينة النصوص العادية، بل من عينة النصوص الاستراتيجية، المفتوحة بطبيعتها على الاختلاف، والتباين في وجهات النظر، إما لصلتها بالهوية (الأمازيغية(، أو لعلاقتها بأبرز الحقوق وأدقها (الإضراب/ المناصفة/ النزاهة والوقاية من الفساد، المنافسة). بيد أن الخطاب كان واعيا سُبل العلاج وبناء التأييد حول مثل هذه القضايا الخلافية داخل المجتمع المتعدد، كما هو حال المغرب. لذلك، تم التركيز على ما سمَّاه الخطاب «التوافق الإيجابي»، المُؤسَّس على الحوار، والبحث عن المشترك، والنابِذ لممارسة «إرضاء الرغبات الشخصية». تكمن قيمةُ الخطاب الملكي في رسائله التربوية والسياسية التي سعى إلى إيصالها لنخبة يُفترض أن تكون واعيةً أهميتها، وحريصة عليها في الممارسة. كما تتجلى في التنبيه إلى ضرورة استكمال إصدار النصوص القانونية التي ألزم الفصل السادس والثمانون من دستور 2011 البرلمان والحكومة معا على إعدادها والمصادقة عليها خلال الولاية التشريعية التاسعة (2011 2016( . لذلك، يلمس من تابع الخطاب أو قرأه أن هناك تشديدا على القيم التي يجب أن تحكم المسألة الانتخابية وما يترتب عنها من آثار في مجال التمثيلية، والوساطة، في تدبير الشأن العام في مختلف مستوياته. كما يخلُص إلى أن هناك تأكيدا على ضرورة أن يتطابق الزمن الدستوري مع الزمن التشريعي، وأن يتولد وئام وانسجام بينهما.. وإلا مثلا كيف تعالج وضعية حصول عجز عن استكمال إصدار النصوص المتبقية في الآجال المحددة حصريا من قبل الدستور؟ وكيف سيكون الأمر بالنسبة إلى الفصل السادس والثمانين في حالة انتهاء الولاية التشريعية ولم يُستكمل إصدار باقي النصوص القانونية؟ لاشك أن الخطاب الملكي الافتتاحي كان واضحا وحازما، وأن رسائله وصلت.. فالحاجة ماسة إلى إعادة صياغة علاقات نوعية جديدة بين الأغلبية والمعارضة، كما أن الحاجة جد ماسة لإعطاء الاهتمام اللازم لعامل الوقت، ولترتيب الأولويات بما يسمح باستكمال البناء القانوني والمؤسساتي الذي تضمنه الدستور وألزم بإنجازه، وكذلك البناء الجهوي الذي أطلقته انتخابات 04 شتنبر 2015.