شهدت تركيا في العقدين الأخيرين تغيرات جذرية على المستوى الاجتماعي والثقافي، نتجت عن تفاعلات مستمرة منذ تأسيس الدولة، حتى بلغت ذروتها في هذه المرحلة، وهو ما تمت ترجمته سياسيا في الخط الذي تنتهجه السلطة الآن. ويحاول هذا الكتاب الغوص في أعماق "الصراع الثقافي" في تركيا بين ما يسميها "الدولة الدينية" و"الدولة المدنية"، وهو صراع بدأ مع ظهور "الدولة القومية" في تركيا عقب إسقاط الخلافة الإسلامية قبل نحو 90 عاما، وبدأت نتائجه تتبلور في ربع القرن الأخير.المؤلف هو باحث ألماني متخصص في الدراسات الاقتصادية، وحاصل على دكتوراه الفلسفة في علوم الدين الإسلامي، وأقام مع أسرته 17 عاما في مدينة إسطنبول التركية، وهو أيضا أحد الخبراء الألمان المتخصصين في الشأن التركي. الدين والدولة يلخص الكتاب حقيقة ما يجري بتركيا في نصف القرن الأخير، بأنه صراع على مساحة "حركة الدين" في الدولة العلمانية، وهو أيضا صراع بين "مركز" الدولة مع الأقاليم الأخرى. ورغم أن التحول من الإمبراطورية العثمانية -المتعددة الشعوب والأعراق والأديان- إلى دولة قومية تركية كان مؤلما، فإنه في النهاية لم ينجح في حل المشكلات التي تفجرت بعد ذلك، وكانت المحصلة فشل المشروع العلماني في صهر تركيا "المتعددة" في نسق ثقافي واحد. وتحظى تركيا بتنوع عرقي وديني شديد، فهناك الألبان والبلغار والأذريون والطاجيك والتتار والأوزبك والجورجيون والأرمن والبوسنيون والشيشان والأكراد والعرب، وهناك أيضا السنة والشيعة والأرثوذكس والأرمن واليهود وأتباع ديانات أخرى.. كل هؤلاء يشكلون المجتمع التركي الآن. لكن النخبة العلمانية التي تشكلت حول مصطفى كمال في بدايات الدولة الحديثة، جعلت النخبة من المسلمين بين تلك الأطياف أتراكا، بينما اعتبرت المسيحيين منهم أجانب، عكس ما كان في زمن العثمانيين، حيث كان الجميع يتمتع بنفس الحقوق.ويشير المؤلف إلى أن الفكر الذي تبنته نخبة الحكم في حزب "الشعب الجمهوري" الذي أسسه كمال عام 1924، كان يرى أن الدولة هي "المركز"، وأنها أشبه بقلعة محصنة ضد "الهمجية السائدة" في الأقاليم المهمشة خارج المركز، تلك الهمجية التي يجب التخلص منها.أي أن على الدولة أن تقود المجتمع وتعمل على "تحديثه" رغما عنه، وظلت هذه النخبة متقوقعة في العاصمة "أنقرة"، ولم ينجح حزب الشعب في النفاذ إلى المناطق الريفية التي كان يراها الكماليون "مجرد بيئة متخلفة غير متعلمة أو متحضرة".لقد كانت مجمل المبادئ التي نادى بها مصطفى كمال هي التحرر، لذلك منحه "مجلس الشعب" عام 1934 لقب "أتاتورك" أي "أبو الأتراك"، وأصبحت خطبه وعباراته جزءا من "الكمالية"، لكنها سرعان ما تحولت إلى أيدولوجية استبدادية قائمة على تحكم الدولة من أعلى، والضغط على المجتمع الذي ينمو من أسفل. هويات متعددة والآن تركيا تكتشف تنوعها وتستفيد منه بشكل إبداعي، ومنذ تسعينيات القرن الماضي تأسست جماعات حقوق الإنسان، وأوجدت عملية تطبيق إصلاحات الاتحاد الأوروبي نوعا من الليبرالية السياسية.وبدلا من الحديث عن الهوية التركية الوحيدة، بدأ الحديث عن "هويات" متعددة، والاعتراف بالتنوع السائد في المجتمع، ولم يعد الأساس هو "الدولة القومية" التي يجب أن يخضع فيها الجميع لهوية واحدة، بل "دولة القانون"، وقد ساهم الاتحاد الأوروبي في تقرير هذا الفكر بشكل حاسم. ويتحدث المؤلف عن ثلاثة أذرع للدولة التي أسسها الكماليون، أولها الجيش الذي اعتبر نفسه أبا لتركيا الحديثة بعدما شارك في تأسيسها، ثم انتقل الجنرالات إلى مستوى جديد من السياسة هو سياسة الدولة التي تتمتع بشرعية ديمقراطية، بهدف الحفاظ على الحكومة المركزية، والتمسك بالعلمانية الاستبدادية، ورفض حرية التدين المتزايدة. ويستند الجيش في كل انقلاباته إلى واجباته التي أقرها القانون. الذراع الثاني هو القضاء الذي يقف بقوة إلى جانب الجيش لتحقيق نفس الأهداف، وهو قضاء غير مستقل وخاضع للسياسة، خصوصا عندما ألغى الجولة الأولى من اقتراع البرلمان لانتخاب رئيس جديد للبلاد في أول مايو/أيار 2007 لمنع انتخاب عبد الله غل لمنصب الرئاسة، كما حظرت المحكمة الدستورية الكثير من الأحزاب السياسية، سواء اليسارية أو العرقية أو الإسلامية بدوافع سياسية واضحة. أما الذراع الثالث فكان حزب "الشعب الجمهوري" أي حزب الدولة، الذي ظل يحكم بمفرده مدة 27عاما حتى العام 1950. ومنذ تطبيق الديمقراطية وتعدد الأحزاب عقب الحرب العالمية الثانية، لم يفز هذا الحزب في الانتخابات سوى مرتين. وعندما تواجه "الشعب الجمهوري" مع "العدالة والتنمية" في انتخابات 2007، فاز الأخير في كل محافظات تركيا، ولدى كل الطوائف الوظيفية والعمرية، وكذلك لدى كل شرائح الدخل، في ما عدا 20% من السكان الأثرياء، وخسر "الشعب الجمهوري" لأنه يمثل "الدولة" لا "مصالح الناخبين". وفي عرف الكماليين حل الفكر العلماني محل الدين، ولم يعد الإسلام، واحترام التنوع العرقي والديني هما أهم ما يميز الدولة، وإنما أيدولوجية جديدة شكلتها ستة مفاهيم منذ عام 1931 وهي: القومية، والتركية، والعلمانية، والجمهورية، واستمرار التحول الثوري، ثم الشعبية. وكان الكماليون مفتونين بالغرب، ولم تكن الديمقراطية أو الحرية جزءا من المفاهيم الستة.وأصبحت العلمانية وسيلة الدولة للتحكم في الدين، وهي المبرر لاستبعاد الإسلام من الحياة العامة، لكن ذلك لم ينجح على المدى الطويل، فقد استرد الإسلاميون الساحة العامة منذ بداية التحول للديمقراطية، كما باء الاعتراف بشكل واحد من أشكال الإسلام بالفشل، وهو الإسلام الذي لا يتدخل في الحياة العامة. ويستعرض المؤلف نشأة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، بداية من حزب "النظام الوطني" الذي أسسه البروفيسور نجم الدين أربكان عام 1969، وعندما تم حظره عام 1971 أنشأ حزب "الخلاص الوطني" الذي شارك في ثلاث حكومات ائتلافية حتى انقلاب عام 1980.واستمر الكر والفر مع النظام العلماني حتى ظهر حزب "الرفاة" لأول مرة كأقوى حزب في الانتخابات البلدية عام 1994، ثم في البرلمان عام 1995، وتم انتخاب أربكان رئيسا للوزراء في يونيو/حزيران 1996، لكن حكومته استقالت تحت ضغط العسكر بعد أقل من عام. لقد بدأت الجمهورية القديمة تتهاوى مع بداية القرن الحادي والعشرين، وشهد الوضع الاقتصادي ظروفا صعبة، في الوقت الذي توقفت فيه الأحزاب التركية منذ وقت طويل عن اجتذاب الناخبين بالترويج لبرامجها وأفكارها، وكانت تركيا بحاجة إلى جيل جديد من السياسيين يمثل نخبة جديدة، وهي الفترة التي تأسس فيها حزب "العدالة والتنمية" (أغسطس/آب 2001) الذي دعا إلى سياسة اقتصادية أفضل تحقق الرخاء، والمزيد من الديمقراطية عند ربط تركيا بالاتحاد الأوروبي. نجح "العدالة والتنمية" الذي قدم نفسه ضمن الإطار العلماني بوجه محافظ وليس بمرجعية إسلامية، في الفوز بأول انتخابات يخوضها عام 2002، واستطاع أن يمرر قرارات الإصلاح في البرلمان، وبواسطتها حققت تركيا بين عامي 2002 و2004 خطوة كبيرة باتجاه ديمقراطية حرة تعددية. لقد أتى حزب "العدالة والتنمية" و"أردوغان" في الوقت المناسب، حيث قدموا للناخبين بديلا عندما كانوا يريدون القضاء على الأحزاب التقليدية وساستها ونظامها القديم ومحاسبتها. وأتاح فوز الحزب في انتخابات يوليو/تموز 2007 الفرصة أمام إقامة ديمقراطية حديثة في تركيا، أكثر من أي وقت مضى. ويستعرض المؤلف أسلوب النخبة السياسية الجديدة في تركيا عبر ثلاثة مجالات، أولها عضوية الاتحاد الأوروبي، إذ يرى أن التعامل مع الإسلام في الداخل والخارج يبقى الموضوع الذي سيشغل أوروبا في العقود القادمة، حيث يحيط بالقارة حزام أزمات يمتد من القوقاز عبر الشرق الأوسط، إلى المحيط الأطلسي في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وتكافح تركيا من أجل الحصول على عضوية كاملة في الاتحاد، والإصلاحات المطلوبة تصب في صالح المزيد من الديمقراطية وحقوق الأقليات، ولا تزال محاولات الحصول على العضوية مستمرة. والمجال الثاني هو السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، حيث أصبحت تركيا قوة ناعمة، وقوة إقليمية ذات نوايا حسنة، وهي مثل الاتحاد الأوروبي تريد سلاما واستقرارا في المنطقة، وتريد أن تسهم في حل الصراع الفلسطيني، وأن تمنع تقسيم العراق، وإنتاج إيران للقنبلة النووية. أما المجال الثالث فهو السياسة الاقتصادية التي أدت إلى حالة من الازدهار، ولعقود من الزمن لم تتدفق إلى البلاد استثمارات سنوية مباشرة تزيد عن مليار دولار، ولكنها قفزت عام 2005 إلى تسعة مليارات، وفي العام التالي إلى 20 مليارا.واستثمرت أكثر من 15 ألف شركة أجنبية في تركيا، نصفها من دول الاتحاد الأوروبي، وفي عام 2006 تفوق الاقتصاد التركي لأول مرة -بإجمالي ناتج قومي بلغ 400 مليار دولار- على اقتصادات بلجيكا وسويسرا والسويد، وتخطط حكومة أوردغان كي يصبح الاقتصاد التركي سادس أكبر اقتصاد في أوروبا بحلول العام الجاري. نقاط ضعف وقوة يتحدث المؤلف عن عدد من نقاط الضعف في المشهد التركي الحالي، أولها أن هناك جماعات تتعرض للتمييز، مثل الأكراد والطائفة العلوية الشيعية، والمسيحيين والأقلية اليهودية، وهي نماذج لجماعات عرقية ودينية تتعرض للتمييز بسبب ميراث طويل للدولة العلمانية، وليس بسبب أوضاع حالية. ونقطة الضعف الثانية برأي المؤلف هي وجود عصابات شبه عسكرية تمثل دولة داخل الدولة، وعمليات الاغتيال السياسي، وكذلك "جريمة الشرف" أو ضحايا العنف ضد المرأة، وهي كما أسلفنا جزء من ميراث الحقبة العلمانية الاستبدادية التي بدأت مع ميلاد تركيا الحديثة. أما نقاط القوة فأولها التعاون بين ألمانياوتركيا، وهما رفيقا سلاح وشريكا اقتصاد، حيث تزداد صادرات تركيا إلى ألمانيا سنويا بنسبة تزيد على 10%، حتى بلغت 9.1 مليارات يورو. وتعد صناعة السيارات مثالا على العلاقات الوطيدة بين اقتصاد الدولتين. ونقطة القوة الثانية هي وجود ثقافة تركية ذات توجه أوروبي، وفي المقابل هناك تنوع وانفتاح على منطقة الأناضول التركية، كما بدأ القطاع الخاص التركي في دعم وتشجيع الثقافة والفنون بدرجة أكبر بعد الانفتاح على دول الاتحاد الأوروبي. ملاحظة أخيرة يمكن استخلاصها بعد قراءة الكتاب، أن العنوان لم يكن معبرا بدقة عن المضمون، وربما كان من الأفضل اختيار عنوان يعبر عن صراع المجتمع التركي مع العلمانية والكمالية التي توشك أن تغرب شمسها، رغم هيمنتها الطاغية لأكثر من ثمانين عاما.