مصطفى اليحياوي، خبير في السياسات الاجتماعية، وإطار سابق في وزارة الداخلية، كان ضمن حلقة مركزية في الدولة لصياغة وتقييم تأثير البرامج الرسمية لمعالجة الإشكالات المرتبطة بالمعضلة الاجتماعية، وهو أيضا واحد من المخططين لبرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. تخلى عن منصبه قبل عام، وأصبح أستاذا محاضرا في جامعة الحسن الثاني. في هذا الحوار، يكشف اليحياوي، بوصفه رجلا يملك رؤية من الداخل، ظالملاحظات الأساسية بشأن خطط الدولة في محاربة فقر المغاربة. اثنا عشرة مليون فقير أو شخص يعيش في مجال فقير في المغرب، كيف يمكن تحديد هذا الرقم بالرغم من أن مؤشرات سابقة كانت تتحدث عن رقم أقل؟ أعتقد أن خطاب العرش ل30 يوليوز 2015 قد خلا من الجهاز المفاهيمي الذي عادة ما استعمله الملك في حديثه عن المعضلة الاجتماعية منذ إعلانه عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في خطاب 18 ماي 2005، والذي ميز فيه بين ثلاثة أوجه للعوز الاجتماعي: الفقر والإقصاء والهشاشة. ولذلك، يصعب الجزم على أن عدد «12 مليون» شخص الذي ورد في خطاب العرش يحيل على الفئة الاجتماعية الفقيرة. إن هذا العدد لم يضبط بالاستناد إلى التعريف المعياري المعتمد في الدراسات الإحصائية العلمية حول الفقر، وإنما هو حاصل نتيجة حساب تلقائي تقديري لعدد سكان الدواوير التي تم حصر لائحتها بحسب ترتيب الأولويات، فيما يخص العجز المسجل على مستوى الولوج إلى الخدمات الأساسية (التعليم والصحة والماء والكهرباء والطرق القروية…). والذي يزكي هذا الاعتقاد، كون عدد 12 مليون الوارد في خطاب العرش يحيل على عدد سكان 1272 جماعة قروية، التي تم ضبطها باعتبارها النطاق المجالي الأكثر خصاصا وحاجة للتدخل. وإذا ما أمعنا النظر في هذا العدد الأخير، فسنجده يمثل نسبة %99 من العدد الإجمالي للجماعات القروية، كما سنجد عدد 12 مليون شخص يمثل نسبة %89 من العدد الإجمالي لعدد سكان الجماعات القروية بالمغرب (13.415.803 نسمة)، حسب آخر إحصاء عام للسكان والسكنى لشتنبر 2014. إننا، إذن، أمام تصور جديد للاستهداف الموضوعي للمعضلة الاجتماعية لا يستند من الناحية المنهجية لما اعتمدته الأرضية الحكومية ل2 غشت 2005 في أجرأة الخطاب الملكي حول المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛ وهو ما يبرر الانتقال من عدد 6,7 مليون شخص المستهدف في برامج المبادرة لمحاربة الفقر والإقصاء والهشاشة إلى عدد 12 مليون شخص الوارد في خطاب العرش ل30 يوليوز 2015. ويُفهم –ضمنيا- من هذا التغيير في منهجية ضبط المعضلة الاجتماعية أن الاستهداف المعتمد في المرحلتين السابقتين من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لم يكن على درجة كافية من الفعالية والنجاعة لتحقيق الغاية المرجوة على مستوى تدارك العجز الاجتماعي المتراكم منذ عقود. الحاصل، إذن، أن خطاب العرش ل30 يوليوز 2015 يؤسس لمقاربة «براغماتية» في معالجة الخصاص الاجتماعي، إذ تستلزم الانتقال من تصور سوسيو-اقتصادي معقد في الضبط النوعي للعجز الاجتماعي إلى تصور مجالي مبسط وعام غير محكوم بالتدقيقات المنهجية والنظرية التي عادة ما تركز عليها الهيئات الدولية المانحة في برامج محاربة الفقر. ولهذه الغاية، وانسجاما مع ما ورد في خطاب العرش ل30 يوليوز 2014، وخطاب ذكرى ثورة الملك والشعب ل20 غشت 2014، فقد تأسس هذا التصور الجديد على ضبط الحاجيات بحسب الفوارق المجالية المسجلة بين مناطق المملكة، سواء فيما يخص الخدمات الاجتماعية الأساسية والبنيات التحتية بالدواوير القروية، أم فيما يخص تحسين ظروف العيش بالمناطق الهامشية والأحياء العشوائية بضواحي المدن. إن هذا التصور يجعلنا نسلم بأن ما ورد في خطاب العرش الأخير يؤكد حقيقة وجود تحول سياسي في تواصل الملك بخصوص العجز الاجتماعي خلال السنتين الأخيرتين. موجز هذا التحول أنه إذا كانت الخطابات الملكية حول المعضلة الاجتماعية خلال 10 سنوات من عمر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية محكومة في قاموسها وتحليلها وكيفياتها المنهجية بالخبرة الموصى بها في الدراسات الدولية حول التنمية الاجتماعية، فإنه خلال السنتين الأخيرتين أصبحت أكثر تحررا، على الأقل في اللغة، وأكثر واقعية وأكثر بساطة في الغاية والتصور، تتماشى والانطباع الاجتماعي السائد لدى عامة الشعب بخصوص فشل الدولة والسياسات العمومية في تجاوز التفاوتات المجالية بين المناطق والاختلالات البنيوية لمسار التنمية. فالمهم بالنسبة للملك ليس التوضيب اللغوي للخطاب بشكل يلائم قواعد التوليف التقني لبرامج التنمية، وإنما تحقيق الوقع الاجتماعي وإحساس المواطنين بذلك. تكفلت وزارة الداخلية، بحسب ما ذكر الملك، بتحديد الحاجيات والمشاريع والكلفة لبرنامج جديد للتنمية المحلية، بالرغم من أن الدستور كان يحث على جعل الشركاء الآخرين محوريين في صناعة قرار التنمية المحلية، هل هو تراجع عن مكتسبات دستورية؟ ثم ألا يرهن ذلك المسؤولين السياسيين القادمين في برامج لا يتحكمون فيها بأي شكل من الأشكال؟ إن إحالة الملك في خطاب العرش على وزارة الداخلية باعتبارها مصدر الدراسة المعتمدة في حصر حاجيات الخصاص الاجتماعي، يعني أمرين: أولهما أن القصر ما يزال يعتمد على خبرة وزارة الداخلية في تجميع الحاجيات وترتيب الأولويات المجالية للتنمية، وهو ما يفهم منه أن حظوة وزارة الداخلية لدى القصر لم يعترها أي تغيير، بالرغم من أن الدستور الجديد يجعل من مؤسسة رئاسة الحكومة مصدر التنسيق بين الوزارات والقيادة المحورية للسياسات العمومية. الشيء الذي قد يؤول، من الناحية السياسية، على أن وزارة الداخلية لا تخضع لهاتين القاعدتين متى ارتأى القصر غير ذلك؛ خصوصا إذا علمنا أن هذه الدراسة قد تم البدء في إنجازها من طرف مصالح العمالات والأقاليم مباشرة بعد خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب ل20 غشت 2014، دون أن تكون موضوع إخبار في مجلس حكومي، ودون أن تعبئ إليها الوزارات المعنية على المستوى المركزي، بالرغم من تشكيل لجان تقنية ترابية مختلطة تحت إشراف الولاة والعمال لضبط الحاجيات. ثانيا أن هذه الدراسة لا تخضع في تصورها ومنهجيتها لقواعد الضبط الدستوري لكيفية إعداد برامج التنمية الترابية، ولا لمساطر التشخيص التشاركي المعتمد في برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهو ما تنبه له خطاب العرش، إذ يفهم من استعمال صيغة الإمكان في قوله «ويمكن إدماج هذه المشاريع ضمن التوجه الجديد للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وفي إطار البرامج المقبلة للمجالس الجهوية والمحلية»، أن الملك لا يتجاوز «الاقتراح» بالنسبة للمبادرة والجماعات الترابية إلى «التوجيه»، كما هو الشأن في الصيغة التي استعملها في دعوة الحكومة إلى وضع مخطط عمل مندمج وتوفير وسائل التمويل وتحديد البرمجة الزمنية للتنفيذ. إن التمييز بين صيغة «الاقتراح» وصيغة «التوجيه» يعني من الناحيتين السياسية والتدبيرية أن الملك في تبنيه لدراسة وزارة الداخلية يستعمل سلطة رسم الإستراتيجية العامة للدولة التي ينبغي للحكومة، كجهاز تنفيذي، اعتمادها في السياسات العمومية القطاعية، وهو ما يطرح جدوى الانتخابات التشريعية وأهمية البرامج الانتخابية للأحزاب. وفي نفس الآن، ينأى بنفسه عن أي تدخل مباشر في سلطات واختصاصات الجماعات الترابية وهيئات الحكامة الترابية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وأعتقد أن هذا الفهم الأخير من الناحية السياسية يبقى منسجما في ظاهره مع مقتضيات الباب التاسع من دستور 2011، على الرغم من أنه على المستوى العملي ستسعى مصالح وزارة الداخلية الترابية إلى تحويل صيغة المقترح إلى صيغة الإعمال بأشكال وتكتيكات وتعليلات تقنية ومنهجية تلائم –شكليا- مساطر وقواعد الحكامة الجيدة. من 2005 إلى 2015 يظهر أن الأرقام المعروضة بشأن عدد الفقراء في تزايد، كيف يحدث ذلك بالرغم من وجود برنامج INDH، وهل عجزت السياسات العمومية عن مكافحة الفقر؟ كما سبقت الإشارة إليه أعلاه، فإنه خلال مرحلة 2005-2015، اعتمدت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بتوجيه من برنامج الأممالمتحدة للتنمية والبنك العالمي، على مؤشرات ومقدمات نظرية ومنهجية مرجعية للاستهداف الموضوعي للمعضلة الاجتماعية، تقدم حلولا ومعالجة للاختلالات عبر محاربة الفقر والتمييز الواعي بين ثلاثة أوضاع للعوز الاجتماعي «الفقر في المجال القروي»، و»الإقصاء في المجال الحضري»، و»الهشاشة المخصوصة بالأشخاص في وضعية صعبة بسبب افتقاد الرابط الأسرية أو انعدام الكفايات الاقتصادية للسواء الاجتماعي». وقد تركز النموذج التنموي المعتمد على أربع ركائز أساسية: المقاربة التشاركية، والحكامة الترابية للبرامج، وأفقية المعالجة، والعمل بالتدبير القائم على النتائج. وبالاستناد إلى خلاصات أهم التقييمات المنجزة للمبادرة، سواء من طرف المؤسسات الدولية المانحة أو من طرف المرصد الوطني للتنمية البشرية، أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فيمكننا القول إن أداءها قد اعترضته عدة مشاكل، ولا يرقى للإمكانات والموارد المعبئة، والتي تجاوزت استثمارات المبادرة فيها خلال 2005-2015 مبلغ 21 ملايير درهم. وهنا ينبغي التمييز في اعتقادي بين بعدين في التقييم: من ناحية المهارات التدبيرية، وباعتماد برامج المواكبة المؤسساتية وتقوية الكفايات، تمكنت المبادرة من مراكمة خبرة مهمة على مستوى منهجية إعداد وتتبع وتقييم المشاريع التنموية بطريقة تشاركية. أما من ناحية النتائج وأثرها المباشر على حياة الفئات الاجتماعية المعوزة، تبقى برامج المبادرة محدودة الوقع، ويصعب اليوم قياس درجة تأثيرها في تحسين ظروف حياتهم اليومية؛ علما أن دينامية المبادرة افتقدت في الخمس سنوات الأخيرة القدرة على التعبئة والإثارة الاجتماعية الإيجابية التي أحدثتها خلال مرحلتها الأولى. ولعل أهم ملاحظة ينبغي التركيز عليها في هذا الباب أن أجرأة المبادرة قد طبعتها الاستعجالية والمزاجية والاحتفالية وثقافة التباهي أمام الملك، كما أن انتظاراتها وطريقة تسويقها السياسي والإعلامي كانت أكبر من حجم مشروعيتها وقدرتها التعبوية كمقاربة أفقية لمحاربة الفقر تشتغل بموازاة مع تدخلات الوزارات المعنية والجماعات الترابية بغاية الرفع من المردودية الاجتماعية للتدخلات العمومية. وهو ما ظهر بشكل بارز على مستوى ضعف التقائية مشاريعها مع مشاريع البرامج القطاعية والمخططات الجماعية للتنمية. لماذا جرى تغييب مفاهيم الإقصاء والهشاشة من البرنامج الجديد؟ هل هنالك مشكل مفاهيمي أم أن القدرة على مواجهة هذه الإشكالات أصبحت ضعيفة؟ أعتقد أن البرنامج الجديد لا يعوض المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بل يطعمها. وأظن أنه إذا كانت هناك مرحلة ثالثة في المبادرة، فسيعتبر هذا البرنامج تحيينا وتوسيعا للبرنامج الخامس الذي تم دمجه في المرحلة الثانية (2011-2015)، أي برنامج التأهيل الترابي، الذي يسعى لمعالجة الاختلالات الاجتماعية التي تعرفها المناطق النائية والجبلية على مستوى البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية. w حدد رقم 50 مليار درهم لبرنامج التنمية المحلية، كيف يمكن أن يكون الرقم ملائما؟ أعتقد أن أهمية هذا المبلغ أنه يتجاوز المبلغ الإجمالي لاستثمارات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية خلال مرحلتيها: الأولى (200-2010)، والثانية (2011-2015) بزيادة تصل إلى الضعف، وهو ما يؤكد الأولوية الاستراتيجية التي يوليها الملك للمعضلة الاجتماعية. ويبدو لي أن ميزانية هذا البرنامج ستدمج في صندوق دعم المبادرة رقم 3.1.04.06 المستحدث بالمرسوم رقم 2.05.1016 بتاريخ 19 يوليوز 2005، وذلك لتأمين السرعة والنجاعة في مساطر التمويل والأداء. وأعتقد أنه لا يمكن تعبئة هذا المبلغ إلا بالزيادة في حجم مساهمة الدولة والجهات في صندوق دعم المبادرة، لأن أي زيادة في دعم التعاون الدولي في هذا الصندوق مرهون بقدرة الدولة على الزيادة في المساهمات العمومية. وأظن أن الجدة في هذا البرنامج ستكون بتخصيص مساهمة المؤسسات العمومية في تمويله. إذا كانت السياسات والبرامج التي اتخذت في السابق لم تعط مفعولها، ووجب بالتالي سن برنامج جديد، كان من الضروري أن يعرض تقييم البرامج السابقة، وأن تجرى محاسبة عامة، لكن هذا لم يحدث، بماذا تفسر ذلك؟ إن سؤال تقييم الأثر الاجتماعي للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والسياسيات العمومية القطاعية الأخرى خلال 15 سنة من حكم الملك محمد السادس، خاصة برنامج محاربة السكن الصفيحي والبرنامج الاستعجالي للتعليم، بات ضروريا وحاسما، لأن ما ورد من انتقادات في الخطب الملكية خلال السنتين الأخيرتين يؤكد أن هناك تباينا كبيرا بين الأهداف المرسومة لهذه البرامج وبين النتائج المحققة، وهذا يعني فيما يعني أن منهجية التدخل قد افتقرت إلى النجاعة الكافية لتحقيق الغايات. وأظن أن ذلك أدى إلى هدر الطاقات والجهد والموارد لإنتاج عائدات في التنمية جد محدودية. الأمر الذي يسلم، في الأخير، إلى ضرورة تحديد مسؤوليات الأشخاص والهيئات القيادية التي أشرفت على هذه البرامج، بكل شفافية وموضوعية. إن ضعف نجاعة وفعالية التدخل العمومي في المجال الاجتماعي أصبح مزمنا وبنيويا وغير كاف لاستباق المخاطر الأمنية المترتبة عن الإحساس بالغبن الاجتماعي، وهو في اعتقادي ما يتطلب، إلى جانب تحديد المسؤوليات، إعادة النظر في طريقة تفاوض الدولة مع مؤسسات التعاون الدولية، فيما يعرف بالدعم المؤسساتي وقواعد ومؤشرات التدبير الجيد الواجب اعتمادها في تبرير النفقات العمومية. ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أن الخلل في الإطار المرجعي والأدوات الموصى بها في هذا الشأن، بل ينبغي أن يفهم على أن ضرورات الملاءمة مع السياق المحلي يلزم التفاوض بشكل جدي وعميق، وليس التسليم فقط بنتائج مقارنة التجارب الدولية. فالخبرة إن لم تكن على درجة من المعرفة والملاءمة بالواقع المحلي لا يمكنها البتة إنتاج الفائدة والغاية المرجوة من المقاربات التدبيرية. ففي كثير من الأحيان، أصبح الأهم بالنسبة للمدبر العمومي ليس إنتاج الأثر الاجتماعي، بل تحقيق الملاءمة الشكلية المسطرية مع دلائل الدعم المؤسساتي وتوصيات الافتحاص السنوية. بالجملة، بقدر ما يستعمل الملك هامشا كبيرا من المبادرة واستباق عجز الحكومة في التصدي للأزمة الاجتماعية، وما يترتب عنها من مخاطر أمنية ومن إحساس للمواطن بالمعاناة والتهميش، بقدر ما يفتقد السياسي-الحكومي القدرة والاجتهاد، وفي بعض الأحيان، الحرية في تجاوز الشكليات المسطرية والتوليفات التقنية التي يشترطها المدبر العمومي (التقني) للإذن بجواز الحركة؛ وهنا في اعتقادي يكمن جوهر الأزمة التي تعانيها السياسات العمومية بالمغرب، خاصة الاجتماعية منها. هل تفكر الدولة في برنامج جديد ربما إحدى ملامحه ما أعلنه الملك؟ وهل تعتقدون أنه سيكون فعالا؟