بداياتي المتعثرة بفاس لم يكن التحاقي بفاس واختلاطي بالجهاديين بها بداية الألفية الجديدة سلسا ولا سهلا كما تصورته ، فرغم إعجاب الكثيرين بما كنت أطرحه وطريقة التعبير عنه التي لم تكن مألوفة في تلك الأوساط ، إلا أنني لم أتنبه إلى أن أبناء التيار لهم من المسلمات والثوابت ما ليس قابلا للنقاش ولا للمعارضة، وأن المخالفة فيها ترفع عنك الثقة وتعرضك لسيل من الاتهامات، وهذا ما لم أكن أرغب فيه وأنا أدشن مسارا جديدا وأبحث عن موقع في خريطة الدعوة والدعاة. لم تكن هذه المسلمات والثوابت أصولا عقدية بالضرورة، بل قد تكون اختيارات فقهية ، ومسائل فرعية وقع فيها اخلاف منذ عهد الصحابة ولم يحسم، أذكر أيامي الأولى بفاس، وقد كنت مدعوا لإحدى الولائم بحي بنسودة ، فسألني أحدهم بعد نهاية الكلمة التي ألقيتها، عن حكم كشف المرأة لوجهها، فأجبت بما كنت أعتقده بأريحية ودون اعتبار لأي رد فعل ، ما دامت المسألة من قضايا الخلاف المعروفة في كتب الفقه والحديث ، ورجحت جواز كشف الوجه كما هو مذهب جمهور العلماء ، فإذا بي أفاجأ بتغير الوجوه حولي وكثرة الهمهمات، وكأني قلت منكرا من القول وزورا، لم يتوقف الأمر عند ذلك، انبرى لي بتحريض من الحاضرين شابا في مقتبل عمره، يظهر أنه يفوتهم علما واطلاعا، فكان رده عنيفا ومتشنجا وبالغ الحدة وكأنني هدمت أصلا من أصول الدين ، أو خالفت مسلمة من مسلمات الشريعة. توترت الأجواء وتغيرت، حتى طعام الوليمة لم يتجرأ أحد على أكله بفعل الجو المتشنج، بقي الموضوع حديث الساعة لأيام، تلقيت بعده سيلا من الاستفسارات إن كنت فعلا صرحت بهذا المنكر العظيم، تقدم ذلك الشاب باعتذار بعد الحادثة، لكنني اضطررت بعد ذلك اليوم، كلما سئلت عن الموضوع، إلا وأجبت إجابة غامضة مبهمة، كالقول بأن الفقهاء اتفقوا على الوجوب زمن الفتنة، وليس لي من غرض في ذلك إلا اتقاء تفرق الأصحاب. من ذلك أيضا إخفاء قناعتي في حكم تارك الصلاة، فقد كنت على مذهب جمهور العلماء في عدم تكفير الصلاة، خاصة بعد اقتناعي بما كتبه الشيخ الألباني في الباب، لكنني بعد وصولي لفاس لم أكد أجد فرقا بين القول بعدم كفر تارك الصلاة والقول بعدم صحة نبوة الأنبياء، كان اختيارك لعدم كفره مروق عن السنة وضلال عن حق وسقوط في مستنقع التجهم والإرجاء، ولم يكن طرح الخلاف مسموحا به البتة، فكنت أتحاشى الخوض في هذا الموضوع وحتى لو سئلت عنه كنت أجد في تفريق بين تيمية بين الترك المطلق ومطلق الترك مخرجا لي من المو ضوع. كل هذه الأمثلة ليست إلا نماذج من إرهاب الأتباع والأصحاب، الذين يجبرونك أحيانا حتى على التصريح بما لا تعتقده ولا تومن به، حرصا منك على محبتهم، ومراعاة لخواطرهم، وخوفا من تفرقهم عليك، بل هذا صريح ما عبر لي عنه أحد مشايخ التيار بعد ذلك: إسمع يا أبا حفص، ليس كل ما نعتقده نصرح به، ولا كل ما نؤمن به نعلنه، أتريد أن ينفض عنا الناس؟ كان هذا أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبناها في تلك الفترة، بدافع الحرص على الاستقطاب وتكثير سواد الأصحاب، مارسنا نوعا من الازدواجية والغموض في المواقف، مع استعمال العبارات الفضفاضة والجمل المبهمة الحمالة لكل المعاني، مهابة أن يقال فلان ليس على منهج أهل السنة، أو انحرف عن عقيدة السلف، أو أن تضعف أسهمه في سوق المشيخة . لم يكن هذا الحرص على تكثير المحبين والأتباع دليلا على ضعف الصدق ولا ضعف الاحتساب حتى أكون منصفا ، فلا شك أن قلوبنا كانت ممتلئة بكثير من الصدق، وحماستنا كانت عن قناعة ورغبة في الأجر والتقرب إلي الله، وكنا ندعو في سرنا وجهرنا بالقبول ورفع الأعمال، ولكن هذه النية الصادقة لا تخلو من مزاحمة حظوظ النفس، والحرص على ثناء الناس، والسعي لحشدهم حولك، والخوف من تفرقهم عليك، حتى لو استدعى الحال إخفاء بعض ما تؤمن به أو إظهار الإقرار على ما لا تتفق عليه. ولعل هذا كان أحد الأسباب في أن نسب إلينا كثير مما لا نومن به، بناء على مما يؤمن به ويعتقده هؤلاء الأتباع، بل من ذلك ما لا نراه ولا نومن به، لكن سكوتنا عنه وافتقادنا الشجاعة في نقده ورده، وعدم وضوحنا في بعض المواقف، كل ذلك أدينا ثمنه غاليا حين حملنا أفكار غيرنا. كانت هذه هي الأجواء التي بدأت التأقلم عليها شيئا فشيئا، وبدأت في وضع بصمتي الخاصة بين أبناء التيار، خاصة بعد التفاف جمع من الشباب الطيب والصادق والمتحمس حولي، وعلى رأسهم ذلك الشاب الذي عنفني في موضوع النقاب وأغلظ علي القول،بل من عجائب القدر أن يصير ذلك الشاب أحد أقرب الناس لي وأكثرهم تتلمذا على يدي، بل أكثر من ذلك، سيكون أحد أبرز من قاد مسلسل المراجعات داخل السجون. في الحلقة القادمة: كيف تطورت علاقتي بالشباب؟ وكيف السبيل في مواجهة التكفير؟