بدأت المواجهة المفتوحة بين عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، وأحزاب المعارضة، منذ يوم تعيينه رئيسا للحكومة. وهي مواجهة اشتعلت أكثر بوصول إدريس لشكر إلى قيادة الاتحاد الاشتراكي في ربيع 2012، ثم حميد شباط إلى الأمانة العامة لحزب الاستقلال في شتنبر 2013، وتحولت إلى حرب بكل الأسلحة بين الطرفين، بعضها معلن وأكثرها خفي. أسلحة المعارضة رغم أن حزب العدالة والتنمية اندمج تدريجيا في المشهد السياسي، على خلاف باقي الأحزاب الإسلامية في العالم العربي، وإن استفاد بدوره من موجة الربيع العربي، فإن بعض النخب الحزبية وجدت صعوبات نفسية وسياسة في تقبل تصدر حزب إسلامي المشهد السياسي، بل وقيادة أول حكومة سياسية في ظل أول دستور للملك محمد السادس. يعتقد الإسلاميون أن تحالفا واسعا، معلنا وخفيا، تشكل من أجل إسقاط حكومة بنكيران، في أول فرصة ممكنة. ومن أجل تحقيق ذلك، لجأ هذا التحالف إلى تكتيكات مختلفة، مثل زرع عوامل الشك وعدم الثقة بين الحزب الإسلامي والمؤسسة الملكية، وتشويه صورة الحزب في الخارج، وتخويف رجال الأعمال والمستثمرين، وفي الوقت نفسه العمل على تفجير الحكومة من داخلها، عبر دفع حزب الاستقلال، خاصة مع صعود حميد شباط إلى القيادة، إلى الانسحاب منها. من خلال المعطيات التي صرّح بها بنكيران، أو قيادات في حزبه، فإن الخطة اكتملت حتى النهاية، وكانت الظروف الإقليمية مواتية تماما لكي تنجح، خاصة أن أزمة الحكومة بسبب انسحاب حزب الاستقلال تزامنت مع بات يسمى ب«خريف الربيع العربي» الذي تجلى بوضوح في الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي، لكن ثمة سببين على الأقل أديا إلى نجاح الحكومة في الاستمرار. الأول مرتبط بإرادة الملك محمد السادس في استمرار حكومة بنكيران، وموقف الملك ليس معزولا عن دوائر أخرى للقرار داخل الدولة، يبدو أنه كان لها رأي مؤيد وداعم لبنكيران، خاصة الجهات المحافظة. كما أنه موقف محكوم بهاجس الحفاظ على الاستقرار السياسي والمؤسساتي، وأولوية تجاوز الأزمة المالية، وعدم الرغبة في الانجرار إلى وضع غير مرغوب فيه. ثانيا، سياسة بنكيران نفسه، الذي اختار، من جهة، «بناء الثقة» مع الملك بشكل شخصي، وعدم الاعتراض علنا على قراراته، أو منازعته في الاختصاص، ومن جهة ثانية، تقديم الحزب داعما للشرعية الملكية، سواء عبر الخطاب أو عبر القرارات الجريئة و«اللاشعبية» التي اتخذتها الحكومة. يعتقد الإسلاميون أن المحاولة الأولى للمعارضة لإسقاط الحكومة فشلت، وهي محاولة كان الطرف الحزبي الذي يقف وراءها هو حزب الأصالة والمعاصرة. وفي الوقت الذي استطاع بنكيران ترميم حكومته في نسخة ثانية، دخلها حزب التجمع الوطني للأحرار، وتقنقراطيون محسوبون على القصر، بدأت محاولة ثانية دون أن تصل بدورها إلى تحقيق الهدف لحد الآن، ويظهر أنها اختارت استراتيجية متعددة الأبعاد، تولت فيها الأحزاب ما هو سياسي، في حين أسندت ما هو مدني أو نقابي أو نسوي إلى أذرعها الجمعوية والنقابية. بتحليل خطابات رؤساء فرق المعارضة، ردا على تصريح رئيس الحكومة بمناسبة منتصف الولاية (يوليوز 2014)، نجد أنها قد ركّزت على ما يلي: أولا، تبخيس عمل الحكومة ومنجزاتها، ففي الوقت الذي دافع بنكيران عن «حصيلة مشرفة»، تحدثت المعارضة، مثلا، عن «حكومة بنزيدان»، في إشارة إلى ما اعتبرته زيادات في الأسعار أرهقت المواطن، كما تحدثت عن فشل الحوار الاجتماعي مع النقابات، وعن عدم قدرة الحكومة على تحقيق أهدافها في مجال التشغيل والبطالة والنمو، وبالتالي، عدم الوفاء بوعودها. ثانيا، تنازل رئيس الحكومة عن اختصاصاته، وهي «لازمة» ظلت ترددها المعارضة منذ بداية عمل الحكومة الحالية، خاصة مع قانون التعيين في المناصب العليا، أو تعيين سفراء من خارج المجلس الوزاري. ثالثا، اتهام بنكيران بابتزاز الدولة، وذلك حين يتحدث عن دور حزبه في الحفاظ على الاستقرار وسط عالم عربي متقلب، انطلاقا من معادلة «الإصلاح في إطار الاستقرار»، بل إن رئيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس المستشارين، حكيم بنشماس، حاول نزع أي شرعية عن كلام قيادة حزب العدالة والتنمية عن مسؤولية هذا الأخير في تعزيز «الانتقال الديمقراطي بالمغرب». رابعا، محاولة التشكيك في مصداقية بنكيران، بالقول إنه تخلى عن شعار: «محاربة الفساد والاستبداد»، عن طريق إثارة عبارته الشهيرة: «عفا الله عما سلف»، والإشارة إلى وعود من برنامجه الانتخابي للقول إنه لم يوف بها، وبالتالي، فهو غير أهل للثقة. هذا على مستوى الخطاب، أما على مستوى الممارسة، فقد عملت أحزاب المعارضة على إرباك الحكومة من خلال خطوات متلاحقة تتمثل في: أولا، مقاطعة عمل لجان البرلمان، ففي أكتوبر 2014، حين أحالت الحكومة على مجلس النواب أول قانون انتخابي يتعلق بتجديد اللوائح الانتخابية، أعلنت فرق المعارضة مواقف مناوئة، إذ رفضت المشروع، وتقدمت بمقترح يرمي إلى إحداث هيئة وطنية للإشراف على الانتخابات. هذا التكتيك اتّبعته فرق المعارضة حين أعلنت الحكومة تشكيل اللجنة المركزية للانتخابات، ورفضت أن يكون وزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، عضوا بها، لكن في العلن قالت إنها لجنة «لا سند قانوني لها، ولا تحترم الدستور». ثانيا، إرباك الأجندة الانتخابية الحكومية، من خلال الضغط من أجل تأجيل الانتخابات مثلا. نبيل بنعبد الله، الأمين العام للتقدم والاشتراكية، كشف أن حزب الاستقلال كان هو السبب في عدم تنظيم الانتخابات الجماعية سنة 2012، وكذلك في سنة 2013. وطالبت المعارضة نفسها بتأجيل الانتخابات التي أعلنت الحكومة أنها ستكون في يونيو 2015 إلى شتنبر، وتحدث بنعبد الله عن ضغوط أخرى لتأجيلها إلى أجل آخر. ثالثا، محاولة إفساد علاقة بنكيران بالملك، كما عبّر عن ذلك بوضوح عبد الإله بنكيران في أحد لقاءات الأمانة العامة لحزبه حديثا. ولعل أبرز مؤشر على ذلك، رفع أحزاب المعارضة شكاية ضد بنكيران إلى الديوان الملكي، تتهمه فيها باستغلال اسم الملك في التجمعات الجماهيرية، وتسويق فكرة مفادها أن حزب العدالة والتنمية هو الحزب المفضل لدى الملك. وهي سابقة في عمل المعارضات السياسية في تاريخ المغرب. رابعا، تبخيس و«إذلال» رئيس الحكومة أمام الرأي العام، تارة بالقول إنه رجل شعبوي عصبي مزاجي، وتارة أخرى بالقول إن له علاقة بداعش والموساد والنصرة، ومن وراء ذلك يتم استهدافه شخصيا باعتباره الرمز والقائد، وقد بلغ الأمر حد وصفه ب«السفيه» خلال الجلسة الشهرية الأخيرة بمجلس النواب، ففي الوقت الذي اختار بنكيران وصف الخطاب المعارض له بأنه «كلام ديال السفاهة»، مميزا بين الخطاب والأشخاص، اختار إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، مهاجمة بنكيران شخصيا بنعته ب«السفيه»، ليرد عليه هذا الأخير بأنه «أكبر سفيه». بعد فشلها في الإطاحة بالحكومة، لجأت المعارضة إلى تكتيك أخير لها، وهو الضغط على بنكيران لكي يسكت، أي منعه من الكلام، وهو ما فشلت فيه أيضا، كما أكدت ذلك المواجهة الأخيرة بمجلس النواب بداية هذا الأسبوع. كيف يواجه بنكيران أعداءه؟ يواجه بنكيران أحزاب المعارضة بتكتيكات مختلفة، تتحول من فترة إلى أخرى حسب الأولويات. لكن يبقى أكبر تحول حصل في خطاب بنكيران تجاه أعدائه وخصومه ومنافسيه، كما لاحظ ذلك يوسف بلال، أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق أكدال، أنه تحوّل من مهاجمة رموز الفساد والاستبداد في الدولة والإدارة والإعلام، عبر استعمال كلمات تمتح من لغة الحيوانات «التماسيح والعفاريت»، إلى مهاجمة رموز أحزاب المعارضة بشكل مباشر وصريح. على مستوى الخطاب، يختار بنكيران موقع الهجوم غالبا، ويوظف عباراته بدقة حين يهاجم قادة أحزاب المعارضة، فيصف إلياس العماري، نائب الأمين العام للأصالة والمعاصرة، ب«المافيوزي»، وحميد شباط، أمين عام حزب الاستقلال، ب«العفريت» و«الباندي»، كما يصف إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، ب«الديكتاتور» الذي شتت حزبه، وب«ستالين زمانه». وحين يجمعهم في كفة واحدة يعتبرهم «سفهاء»، ورعاة خطاب «السفاهة». يستثمر بنكيران جيدا الشكوك التي لدى الرأي العام تجاه «نزاهة» قادة المعارضة، ويضرب بقوة كلما أراد، كما فعل حين تحدى إلياس العماري وحميد شباط مرة واحدة أن يكشفا ثروتهما الشخصية. بالموازاة مع هذا الخطاب الهجومي، والحاد أحيانا، ضد خصومه، يعمل بنكيران جاهدا على ثلاثة مستويات على الأقل يقدم من خلالها حزبه نموذجا للحزب الذي يحتاج إليه المغرب، شعبا ودولة، في الظرفية السياسية الراهنة. أولا، تعميق وتعزيز الثقة مع الملكية. منذ مجيء بنكيران إلى رئاسة الحكومة رفع شعارا واحدا «بناء الثقة» مع الملك. يعرف بنكيران أن أقوى سلاح يمكن أن يستخدمه خصومه ضده هو «ولاء حزب العدالة والتنمية للملكية»، يقول أحمد بوز، أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق السويسي بالرباط، ويضيف أن بنكيران «عمل منذ أول لحظة أتيحت له على نزع هذا السلاح من أيدي خصومه». ثانيا، بالموازاة مع تأكيد ولائه للملكية لأجل نيل ثقتها، يعمل بنكيران جاهدا للحفاظ على حزبه منظما، قويا، متجانسا. يحضر كل اجتماعات الأمانة العامة دون تردد، وكل الاجتماعات التي تنظمها هيئات الحزب، الوطنية أو حتى الجهوية، يوجه ويؤطر ويُقنع بصوابية خياراته، ولا يتردد في أن يحضر حتى ولائم ومآتم أعضاء حزبه وقياداته (أعراس، عقيقة، وفاة…) ثالثا، القدرة على التدبير والحكامة، وهو مرتكز ثالث في خطاب بنكيران وتكتيكاته ضد خصومه. مرتكز يؤكد فيه منجزات حكومته في مواجهة ملفات ثقيلة ومعقدة، مثل صندوق المقاصة، والتقاعد، وعجز الميزانية، والعناية بالفئات الاجتماعية الهشة (الأرامل، المطلقات، الطلبة، المعاقون).