يشكو المشروع المغاربي من صنفين من الأعطاب. يتعلق أولهما بما له صلة بالبنية العميقة للفكرة، ويرتبط ثانيهما بما يستجد من أحداث ووقائع عرضية. وإذا كان العَرضي غير مستعص على الحل، وقابلا، بطبيعته، للتجاوز، فإن المشكلَ، كل المشكل يكمن في ما هو بنيوي. لذلك، يتردد السؤال كلما حلت ذكرى تأسيس «الاتحاد المغاربي»، أو حدث ما من شأنه أن يُذكر الناس بهذا المشروع وضروراته، لماذا فشل المغاربيون، خلافا لغيرهم في مناطق شتى من العالم، في بناء فضائهم، لاسيما وأنهم يمتلكون مقومات عديدة، ينفردون بها عن الكثير من التجمعات الناجحة؟ يكمن العَطب الأول، في تقديرنا، في «الفكرة المغاربية» ذاتها. فالفضاء المغاربي المتخيل ظل حبيس تفكير النخبة، كما استمر أحد هواجس الطبقة السياسية القائدة، ولم يجد طريقه إلى مشروع مجتمعي عام ومشترك. حدث هذا حين لجأت إليه نخب الحركات الوطنية، واستثمرته بفعالية لتعبئة إيديولوجيا العمل الوطني، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد. وعلى امتداد حقبة النضال الوطني، لم تتمكن القيادات الوطنية من رسم صورة واضحة عن الفضاء المغاربي ومصادر قوته المشتركة في أذهان الناس، وإذكاء وعيهم باستراتيجيته، ليس في مجال المقاومة وطرد المستعمر فحسب، بل، أيضا، في بناء مصير مشترك بعد تحرر الأوطان. لذلك، ظلت الفكرة المغاربية غامضة، يلُفها الالتباس وعدم اليقين، أكثر مما يعززها الإقدام والثقة في الإنجاز. ولأن المشروع المغاربي ظل غامضا في سجل الحركات الوطنية، فقد غدا عصياَ عليها، أو على الأقل على بعضها، إعادة جدولته كأولوية مركزية، حين تسلمت مقاليد الحكم بعد الاستقلال. فالمغرب الكبير، الذي وُظف كفضاء مشترك لجلاء الاستعمار، أصبح مغارب بعد الإعلان عن الاستقلال، أي تحول إلى أقطار ذات حدود، بل وهويات بصيغة الجمع وليس المفرد. وفي سياق ما سُميّ «إعادة بناء الدولة الوطنية» بعد الاستقلال، طفت على السطح كل البياضات، التي تم التغاضي عنها أثناء النضال المشترك ضد الاستعمار، أي القضايا المفصلية ذات العلاقة ببناء الدولة ومؤسساتها، وإعادة تشكيل ثقافة المجتمع. والحقيقة أن أسئلة المستقبل ظلت غائبة وغير مكترث بها من قبل النخب الوطنية لأسباب وجيهة موضوعية أحيانا، ولاعتبارات نابعة عن غياب النظرية أو الرؤية، كما أقر بذلك المرحوم علال الفاسي عام 1948، وسعى إلى استدراكه في «النقد الذاتي» الصادر سنة 1952. ترتب عن كل هذا استمرار الفكرة المغاربية مشروعا غير واضح تمام الوضوح، كما ظلت رغبة ظرفية و»تكتيكية»، وليس أفقا استراتيجيا، وإلا بماذا نفسر المراوحة الشقية بين أكثر من صيغة لبناء الفضاء المغربي، منذ مؤتمر طنجة عام 1958 وحتى إنشاء الاتحاد المغاربي عام 1989. يتعلق العطب الثالث بضعف الثقافة الديمقراطية في علاقتها بالمشروع المغاربي. ولأن البناء المشترك عملية مركّبة، مؤسسة على الحوار والمشاركة والتوافق على المشترك، فقد عقد تأخر الدمقرطة في بلاد المغرب فرص إنجاز المشروع المغاربي. والحال إذا كانت الديمقراطية منعدمة، أو متعثرة، في الكيان الواحد، فكيف يتأتى بناؤها في ما هو جماعي ومشترك..إن التغيير نحو الأفضل يبدأ من النفس والذات، ليمتد إلى ما هو عام. أما العطب الرابع، فيخص فلسفة الفكرة، أي ما يجب أن تكون عليه رؤية المشروع المغاربي اليوم. فمن الواضح أن المغاربيين تركوا وراءهم حقبة النضال الوطني بكل حمولاتها الإيديولوجية، وخطاباتها القيمية، وأن أكثر من سبعين في المائة من سكان هذه المنطقة من العالم دون سن الثلاثين، فلا عاشوا ظروف هذه المرحلة، ولا هم على اقتناع تام بتفاصيلها. لذلك، يهمهم أن يروا مغربا كبيرا حاضنا لطموحاتهم وآمالهم، وإطارا للعيش المشترك، يضمن لهم فرص التعبير عن قدراتهم في الاجتهاد الخلاّق، والبناء الفعّال. لذلك، يهمهم إعادة تأسيس الفكرة المغاربية على ما يتلاءم مع أوضاعهم كجيل ليس له صلة بتعقيدات الحقبة الوطنية، ولا بأوزارها الضاغطة.