انعقدت بمدينة الدارالبيضاء على امتداد أيام 16 و17 و18 يونيو ، ندوة فكرية هامة اهتمت بالبحث وبالتنقيب في رمزية النضال الوحدوي الذي خاضته شعوب المنطقة المغاربية من أجل الاستقلال والوحدة. وتندرج هذه الندوة التي نظمتها مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث وجمعية الفضاء المغاربي وبتنسيق مع المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير تحت الرعاية الملكية، في سياق برنامج متنوع سعت من خلاله مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث إلى تخليد ذكرى اليوم الوطني للمقاومة الذي يصادف تاريخ استشهاد البطل المغربي المقاوم محمد الزرقطوني، بما لذلك من دلالات عميقة على جهود مؤسسات المجتمع المدني والباحثين والمؤرخين لربط الجسور مع التراث النضالي الخالد الذي أبدعه شهداؤنا الأبرار ورسموا ملاحمه بدمائهم الطاهرة، في أفق تحويل المضامين الإنسانية لهذا التراث إلى سلاح رمزي قادر على المساهمة في تجاوز إكراهات الراهن، وعلى إعادة بعث آمال جيل الاستقلال السياسي في الوحدة والتقدم، ليس فقط على المستوى القطري، ولكن كذلك على مستوى الفضاء المغاربي الواسع. لذلك، فإن الندوة المنظمة تحت شعار « تراث الآباء .. رصيد الأبناء «، قد تجاوزت سقف جهود الكشف عن القيمة الرمزية لتراث المقاومة، بانتقالها إلى مقاربة قضايا نضالنا التحرري المغاربي في بعده القومي الواسع، والذي انصهرت فيه طموحات شعوب المنطقة المغاربية وتضافرت من خلاله طاقات نخبه السياسية ورجالات المقاومة من أجل تصريف فعل الاستقلال على مستوى كل الأقطار المغاربية. ولا شك أن مساهمة حشد وازن من المقاومين ومن الإعلاميين ومن الباحثين الأكاديميين المغاربيين ومن الشخصيات الوطنية، قد أضفى قيمة مضافة على مبادرة تنظيم مثل هذه الندوات التي تظل ? في نهاية المطاف ? محاولة تأسيسية لتنظيم الاشتغال العلمي والثقافي حول تراث المقاومة والحركة الوطنية على مستوى بلادنا، وكذا على مستوى كل أقطار المغرب العربي. إنه عمق تاريخي يؤكد توحد الأهداف والتقاء الرؤى التي صنعت الوحدة النضالية المغاربية بالأمس، وهي التي ستصنع آمال الوحدة اليوم وغدا. ولعل هذا ما حاولت الكلمة الافتتاحية للأستاذ عبد الكريم الزرقطوني، رئيس مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، إبرازه عندما ربطت بين الشروط التي صنعت مواقف الأمس وبين البعد الوحدوي المغاربي الذي ظل مرجعا للتفكير وللعمل وللمبادرة لدى قادة النضال الوطني والتحرري بمنطقة المغرب العربي. في هذا الإطار يقول الأستاذ عبد الكريم الزرقطوني : « لقد كان التنسيق والتعاون والتكافل بين الوطنيين والمجاهدين المغاربيين دليلا على بلوغهم أرقى درجات الوعي التاريخي بطبيعة مخططات الاستعمار وبوظيفة وآفاق مقاومته. فالحركة الوطنية في الأقطار المغاربية لم تأخذ بعدها التحرري وحقيقتها كمشروع استراتيجي بديل للمشروع الاستعماري إلا عندما بلغت مستوى التكامل المغاربي ... «. هذا هو الأفق العام الذي اشتغلت عليه مختلف المداخلات العلمية التي ساهم بها باحثون متخصصون، الشيء الذي فجر نقاشا خصبا وحيويا أغنى من مستوى هذه المداخلات وحمل كل المؤشرات الكفيلة بتحويل موضوع الندوة إلى شأن عام يمكن أن يلامس أسباب إجهاض حلم رواد التحرير في الوحدة المغاربية، كما أنه يفتح الباب لوضع اليد على مكامن الداء الذي أعاق هذه الوحدة منذ انطلاق مسلسل الاستقلالات القطرية خلال منتصف خمسينيات القرن الماضي. انطلقت فعاليات اللقاء صبيحة يوم 16 يونيو بجلسة افتتاحية ترأسها الأستاذ عبد العالي مستور، احتوت على كلمات تقديمية، ساهم بها كل من الأستاذ عبد الكريم الزرقطوني باسم المكتب التنفيذي لمؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، والأستاذ الحبيب بنيحيى الأمين العام لاتحاد المغرب العربي، والأستاذ مصطفى الكثيري المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، والباحث الجزائري علي دراع باسم أبناء الشهداء ونيابة عن الباحثين المغاربيين المشاركين وباسم مؤسسة الفضاء المغاربي. ومباشرة بعد الحفل الافتتاحي الذي حضرته شخصيات وازنة من عالم الفكر والثقافة والعمل السياسي وتنظيمات المجتمع المدني والسلطات المحلية والجهوية، كان الحاضرون على موعد مع شريط سمعي بصري يؤرخ لأهم المحطات المشعة في تجربة النضال المغاربي ضد الاستعمار، قبل الانتقال لافتتاح المعرض التوثيقي الخاص بتراث الحركة الوطنية المغاربية والمقاومة المسلحة بمجموع الأقطار المغاربية الخمسة. وفي زوال نفس اليوم، انطلقت أولى الجلسات العلمية للقاء، بمداخلة للأستاذ نور الدين الهريم في شكل قراءة تركيبية في رصيد الوثائق التي استرجعتها المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، المحفوظة بدور الأرشيف الفرنسية وذات الصلة بالذاكرة المغاربية المشتركة. ومن جهتهم، ساهم الأساتذة عثمان أشقرا وأسامة الزكاري وزكي مبارك ومحمد بن موسى في مقاربة الموضوع من زاوية جهود تنمية الذاكرة المغاربية المشتركة باعتبارها مركزا للنهوض بالمشروع المغاربي الوحدوي. وفي مساء نفس اليوم، أشرفت مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، بتعاون مع مقاطعة المعاريف، على تنظيم الاحتفال التكريمي لفائدة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد التي ارتبطت سيرتها بتاريخ ملاحم الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي خلال مرحلة النصف الثاني من القرن 20. ورغم أن ظروف المرض قد حالت دون حضور المحتفى بها، فإن فقرات الحفل قد أضفت على اللقاء قيمة وطنية أصيلة أعادت ربط الجسور بمعالم التوهج في تجربة النضال التحرري المغاربي، في قيمه الإنسانية النبيلة وفي ألقه المبدئي الرفيع. وقد ساهم في اللقاء العديد من المبدعين والفنانين المغاربة، وعلى رأسهم الفنان باجذوب والفنانة فاطمة الزهراء العروسي والمبدعة المسرحية خولة فرحات من تأطير الإعلامي الأستاذ أحمد بوعروة. وفي يوم 17 يونيو، انعقدت فعاليات الجلسة العلمية الثانية التي قاربت قضايا تقييم رصيد منجز الاشتغال على الذاكرة التحررية المغاربية، ساهم فيها الأساتذة المصطفى بوعزيز ومحمد معروف الدفالي وصالح شكاك. وقد استطاعت هذه الجلسة تقديم الخلاصات الكبرى لبعض من نتائج الاجتهادات الأكاديمية للباحثين المشاركين وكذا آفاق الاستثمار المستقبلية. كما وضعت الأرضية التوجيهية لمشروع الميثاق الذي صادق عليه المشاركون في منتدى الذاكرة المشتركة للوحدة المغاربية، على أساس إغنائها بالخلاصات التركيبية وبالتعديلات الضرورية، قبل تعميمها على مستوى صناع القرار بالأقطار المغاربية الخمسة وعلى مستوى مجموع القوى المدنية المهتمة، ثم على مستوى قطاعات الباحثين والجامعيين المغاربيين المنشغلين بالبحث في تلاوين الذاكرة النضالية المغاربية المشتركة. وفي بيت أسرة الشهيد الزرقطوني، كان المشاركون مع حفل استرجاعي لذاكرة اليوم الوطني للمقاومة، ساهمت فيه ثلة من الوجوه البارزة في عوالم الفكر والفن والإعلام والثقافة ورجالات المقاومة الوطنية الخالدة، مما ساهم في ترسيخ التقليد السنوي الاحتفائي الذي كرسه فضاء أسرة الشهيد، كمناسبة لجمع شمل شذرات الذكرى واستلهام عبقها الخالد. وبغض النظر عن الخلاصات الكبرى التي انتهت إليها الندوة المركزية للقاء، وكذا عن حيوية التوصيات التي تم تبنيها في هذا الصدد، فالمؤكد أن القائمين على هذه المبادرة قد نجحوا في وضع لبنة أولى لا شك وأنها ستعطي ثمارها على مستوى إعادة بث الأمل في المستقبل المغاربي المشترك، وعلى مستوى الالتفات إلى عناصر القوة في هذا المشروع قصد إغنائه وتخصيبه. ويزداد هذا التوجه أهمية إذا استحضرنا البعد الأكاديمي الرفيع الذي تم توظيفه في مقاربة إشكالات الوحدة المغاربية، بشكل ابتعد عن المزايدات السجالية وعن الحسابات السياسية الضيقة التي ميزت علاقات أقطار المنطقة فيما بينها. لقد اقتنع المشاركون أن إكراهات الراهن لا يمكن أن تكون حاجزا أمام مشاريع النهوض المستقبلية، ولعل في ذلك أبلغ درس يجب أن يستوعبه رجل السياسة في المنطقة لإعادة إحياء المضامين الوحدوية السامية لمؤتمر طنجة المغاربي لسنة 1958 .