أتابع الإعلام الفرنسي والأوروبي عموما فأجده بوقا، في الغالب، لهواجس اليمين المرضية من الإسلام والمسلمين والمهاجرين عموما.. يتحدثون عن أوروبا وكأنها على وشك السقوط في يد خليفة للمسلمين يحكم من بروكسيل 21 بلدا أوروبيا، ويصدر كل صباح فرمانات إسلامية للقارة العجوز… أرجع إلى الإحصائيات فأجد أن هناك 20 مليون مسلم في كل أوروبا، البالغ عدد سكانها اليوم حوالي 742,5 مليون أوروبي، يعيش وسطهم 20 مليون مسلم فقط، أي أن 722 مليون أوروبي غير مسلمين، إما مسيحيون أو يهود أو بوذيون أو ملحدون أو بدون دين، وال20 مليونا هذه من المسلمين مقسمة كالتالي: 5.5 ملايين يعيشون وسط 63 مليون فرنسي، و3.5 ملايين مسلم يأكلون ويشربون وسط 82 مليون ألماني، و1.8 مليون موحد يعيشون مع 61 مليون بريطاني، و800 ألف يعيشون مع 50 مليون إسباني، وهكذا… عن أي غزو إسلامي يتحدثون؟ وأي قنبلة ديموغرافية خضراء يخافون ويندبون… جل هؤلاء المهاجرين المسلمين يقضون ما بين 12 و16 ساعة في اليوم يبحثون عن رزقهم في المعامل والحقول والمصانع والمطاعم وأنفاق الميترو. 90 في المائة منهم لا يزاولون المهن الراقية والمؤثرة والأكثر دخلا، مثل العمل في الأبناك والمؤسسات المالية والمحاماة والطب والهندسة والإعلام والتكنولوجيات المعقدة… مؤسسة غالوب المشهورة قامت باستطلاع للرأي وسط مسلمي أوروبا، وسألتهم: هل يمكن تبرير أعمال العنف ضد المدنيين: 82٪ من مسلمي فرنسا قالوا لا. 91 في المائة من مسلمي ألمانيا قالوا لا. 85 في المائة من مسلمي بريطانيا قالوا لا… نسبة المتطرفين وسط المسلمين في أوروبا ليست أكثر من نسبة المتطرفين وسط المسيحيين واليهود، لكن الكليشيهات المعلقة فوق رؤوس الأوروبيين المسلمين تضخم من تجاوزات الأقلية وسطهم، التي تشعر بالمهانة والضياع والهشاشة الاجتماعية وشرخ الهوية، ولا تعرف كيف تواجه كل هذا، لهذا تنساق إلى التطرف والعنف والإرهاب. الأوروبيون، يميناً ويسارا، صاروا يوظفون هشاشة هذه الأقلية المسلمة ومشاكلها وصعوبة اندماج بعضها في برامج انتخابية ومزايدات سياسوية للعب على مشاعر الناخبين، وتصوير الإسلام على أنه سبب كل مصائب أوروبا. حدث هذا منذ 20 سنة على الأقل، حتى قبل حادث شارلي إيبدو وأحداث أخرى مماثلة. عوض أن يتحدث السياسيون عن البطالة يتحدثون عن المحلات التي تبيع اللحم الحلال في ضواحي باريس، وعوض الحديث عن الركود الاقتصادي يبحث السياسيون في خرقة على رأس تلميذة في المدرسة باعتبارها تهدد قيم الجمهورية ومبادئ العلمانية، وهكذا يتفنن الشعبويون في اللعب على المظاهر الدينية للأقلية، مستغلين ضعف اندماج البعض، الذي حمل قريته إلى لندن، وطقوسه إلى بروكسيل، وعشيرته إلى برلين، وقبيلته إلى مدريد، دون أن يميز بين العيش في مجتمعات مسلمة والعيش في بلدان مسيحية وعلمانية. إذا كان لديك طفل معاق في البيت هل تساعده أم تتفنن في إهانته والسخرية من حاجاته الخاصة، وتوظيفه لجني المال أو الامتيازات؟ هذا بالضبط ما تفعله جل الأحزاب وأغلبية الإعلام في أوروبا مع أقلية الأقلية غير المندمجة في أوروبا… أكثر كتاب يقرؤه الفرنسيون هذه الأيام هو مؤلف تافه لصحافي من أقصى اليمين المتطرف اسمه إيريك زمور بعنوان: «انتحار فرنسي». الكتاب يقطر عنصرية وهوسا وإسلاموفوبيا، ويقول إن فرنسا التي بناها الأجداد لم تعد قائمة اليوم، وإن هناك أحياء بكاملها في باريس لم تعد فرنسية، بل صارت إسلامية، وإن الجمهورية الفرنسية أصبحت مخنثة تكره الحرب، وتبحث دائماً عن التوافق وتقدس حقوق الإنسان، ولا تطبق أحكام الإعدام، ورئيسها بدون سلطة.. والحل يا زمور؟ لا بد، في رأيه، من التخلص من السمات الأنثوية في سلوك الدولة الفرنسية، وجعل الرئيس ملكا منتخبا بصلاحيات كبيرة ومهمة، أما المسلمون فما عليهم، إذا أرادوا أن يعيشوا في جمهورية زمور، إلا أن يتخلوا عن ثلثي القرآن، وأن يعلمنوا الإسلام، وإذا لم يفعلوا ذلك فعلى الدولة أن تقوم بذلك بالقوة… زمور هذا ضيف شبه دائم على بلاطوهات التلفزات وبرامج الإذاعات الفرنسية، وهو أفضل من يسوق خطاب الجبهة الشعبية، التي تعتبر أن المهاجرين المسلمين والسود مشكلة فرنسية، حتى إن زمور هذا يستكثر على المهاجرين الصورة النمطية التي تقول إن العرب والسود أكثر فحولة في الفراش من الفرنسيين. زمور يقول: «علينا أن نمحو هذه الأسطورة، وأن نبعث الرجولة من جديد في الفرنسيين». هل رأيتم إلى أين يؤدي مرض الإسلاموفوبيا… طبعا هناك أصوات أخرى عاقلة تدعو إلى التعامل مع المسلمين في أوروبا كمواطنين أولا، لكن أصوات هؤلاء لا تسمع في هذا المناخ الموبوء حيث تقطع داعش الرؤوس، وتطلق القاعدة النار على هيئة تحرير في مجلة ساخرة… لكن هذا لا يبرر، بأي حال، صعود العداء للمسلمين في القارة العجوز التي سالت فيها دماء غزيرة بسبب الحروب الدينية والقومية والعرقية، ومنها خرج فكر الأنوار، وفيها ولدت الحداثة وكبرت النهضة. هذا أمر مؤسف حقاً. هذه ليست أوروبا التي تعرفنا عليها في درس الفلسفة وقسم التاريخ…