عبد اللطيف وهبي* نشرت الصحافة الفرنسية مؤخرا خبر تعيين ليونيل جوسبان عضوا بالمجلس الدستوري الفرنسي. هذا الخبر أثارني على أكثر من مستوى، حيث لهذا الرجل، الشخصية الغريبة، مسار حافل على مدى 78 سنة من عمره، فهو شغل مناصب عدة منها الوزير الأول في الحكومة الفرنسية، ورئيس حزب، ووزير التعليم، ونائبا برلمانيا عن العاصمة باريس، ومرشحا للرئاسة الفرنسية وغيرها من مميزات سيرة رجل سياسة مرموق، ثم غادر السياسة إثر انهزامه في الانتخابات الرئاسية. فاختيار شخص من هذه الطينة، ومن هذا الحجم، ومن هذه التجربة لعضوية المجلس الدستوري الفرنسي، يؤكد مدى أهمية هذه المؤسسة وجسامة دور أعضائها من القضاة، ولكن دعونا نرحل من فرنسا نحو المغرب لنفكر جميعا في محكمتنا الدستورية هنا بالمغرب. فالمحكمة الدستورية في المغرب مؤسسة أنشأها دستور 2011، وأعطاها من الدور والقيمة الدستورية ما تستحقه، وعلى طول المسار السياسي من 2011 إلى الآن، اختلفنا كثيرا مع بعض أحكام هذه المحكمة، ولكن كان لها تصورها وتوجهاتها، بل لنكن صريحين، فهذا الاختلاف لا يضير في شيء الاحترام الواجب لهذه المؤسسة الدستورية، غير أن هذا الاحترام لن يجد معناه وحقيقته إلا إذا تعاملنا معه على مستويين: خلق الانسجام ينبني على الإحالات، حيث لا يجوز فقط أن يكون دور هذه المحكمة هو حسم الخلاف والصراع حول الكراسي الانتخابية التي لها أهميتها، بل يجب أن تكون لنا القدرة والرغبة في إشراكها في بلورة تصور صحيح ومنسجم مع نصوصنا وتوجهاتنا القانونية عند التشريع، وهذا يفرض علينا أن نتحلى بنوع من السمو، إذ إن الإحالات لا تستهدف الحصول على انتصارات وهمية بأحكام ننتظرها لفائدة هذا الطرف أو ذاك، أو لنجعل منها مناط انتصار سياسي ظرفي ضد الأغلبية أو الحكومة، بل لنمكن هذه المحكمة من أن تلعب دورها الدستوري لما فيه مصلحة هذا البلد برمته، وخلق انسجام دستوري لترسانتنا القانونية، خاصة وأن الفصل 133 من الدستور منحها اختصاصا جديدا لأول مرة في تاريخ القضاء الدستوري بالمغرب، وهو البث في دستورية قانون أثيرت أثناء النظر في قضية ما، بناء على طلب أحد الخصوم، وهذا سيمنح للمحكمة الدستوري بالقيام دور البث في دستورية جميع القوانين التي وضعت من 1912 إلى الآن، أي القوانين السابقة واللاحقة، وهو عمل له حساسيته، كما يتسم بنوع من الضخامة، ويحتاج إلى جهد خرافي لإعادة النظر في دستورية ترسانتنا القانونية، وهذه المسطرة لها خطورة، إذ قد تكون منزلقا لعرقلة العملية القضائية أو المساس بفوريتها، لذلك، فإن منح هذا الحق يجب ألا يكون مطلقا، بل يجب خلق مصفاة إضافية وشروط موضوعية تحد من الإسراف أو التعسف في استعماله حتى لا تتحول هذه المسطرة إلى وسيلة مثلى لتعميق أزمة البطء القضائي، وعرقلة الحسم في القضايا المعروضة على القضاء، من خلال توظيف هذا الدفع من طرف الخصوم بسوء نية. أهمية الاختيار نجده مرتبطا أساسا باختيار الأشخاص الذين سيقومون بهذا الدور، أي دور القضاة، وهذا يتطلب حسن الاختيار من طرف من لهم الاختصاص، خاصة وأن القاضي الدستوري، الذي سيبت وفقا للفصل 133 من الدستور في دستورية القوانين أثناء سريان مسطرة الدعوة، سيجد نفسه أمام إشكاليات قانونية تهم المجال المدني والجنائي والتجاري، والأحوال الشخصية، ونصوص تتقاطع بين هذه القوانين جميعا في علاقتها مع الدستور، وهذا يحتاج إلى ممارسة قضائية قصد الإلمام بالمساطر وسريان الدعوة، وهي تحتاج إلى تجربة كبيرة وإلمام بالقضايا والقوانين بشكل كبير ستتجنب هذه المحكمة إصدار أحكام بعيدة عن التضارب والتناقض، والشيء نفسه عندما تقوم بمهامها في إطار الفصل 132 من الدستور، وما يحتاج ذلك من إلمام بنظامنا الدستوري، ودور مؤسسات الدولة، والعلاقات فيما بينها وتغليب المصلحة، وكذلك دور البرلمان وأنظمته الداخلية، ما يجعل دور القضاة مزدوج الصعوبة، لأنه يتطلب تكوينا قانونيا وسياسيا يسمح فعلا أن يجعل من هذه المحكمة، محكمة الحكماء، وليس فقط القضاة. وبغض النظر عما منحه الدستور لجلالة الملك من اختصاص تعيين بعض أعضاء المحكمة الدستورية والرئيس، وهم ستة أعضاء بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي، فإن الخلاف الذي سيفرض نفسه هو اختيار المترشحين الباقين، وهم ثلاثة ينتخبهم أعضاء مجلس النواب، ومثلهم ينتخبهم أعضاء مجلس المستشارين. إشكالات قانونية وأخلاقية ودون العودة إلى الحديث عن الشروط التي تطرقنا إليها في مقال سابق للعضوية داخل هذه المحكمة الدستورية، مازالت مسطرة اختيار وانتخاب أعضائها من طرف مجلسي البرلمان تطرح عدة إشكالات قانونية وأخلاقية. إن المحكمة الدستورية في حكمها الصادر بتاريخ 22 غشت 2013 في قرارها رقم 924/13 بمناسبة حسمها في النظام الداخلي لمجلس النواب، (نص القرار في آخر المقال)، تطرقت إلى هذا الموضوع، فحسمت في مفهوم تمثيلية المعارضة، أولا في كونه يهم اقتراح الترشيح وليس الانتخاب، حيث للمعارضة الحق في المساهمة في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، من خلال تقديم مرشحين والتصويت مثل غيرها، أي ليس هناك حسب القرار ما يعطي للمعارضة الحق المسبق للعضوية في المحكمة الدستورية، لكون التمثيلية القضائية في هذه المحكمة لا ترتبط بمن يمثل المعارضة أو الأغلبية، بل بمن تتوفر فيهم الصفات والشروط المنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من الفصل 130 من الدستور وأن يحصل على الأصوات. إضافة إلى ذلك، فقد نص القرار بشكل أدق على إجراءات الاختيار والتصويت، وأكد أن الملفات تقدم بشكل فردي من خارج البرلمان أو من أعضائه وبكيفية فردية، غير أن النظام الداخلي منح حق تقديم الترشيحات إلى مكتب مجلس النواب إلى الفرق البرلمانية، غير أن القانون لا يمنع النواب تقديم ترشيحات من طرفهم ولمكتب المجلس القرار النهائي في اختيار من سيقدمهم للتصويت، وهذا الاختيار خاضع لرقابة المحكمة الدستورية، لهذا لا وجود لحقوق مسبقة، لا للمعارضة ولا للأغلبية، في تمثيلية مفترضة داخل هذه المحكمة، بل لها الحق فقط أن تقدم ترشيحات وتدافع عنها، ويبقى مكتب المجلس صاحب القرار المطلق في الاختيار في من لهم الحق في الترشيح، وفقا للشروط المنصوص عليها دستوريا. والحقيقة أن هذا القرار أثلج صدري، حيث أبقى لمكتب مجلس النواب مراقبة الشكليات، وتوفير الشروط، وتقديم اللائحة إلى المجلس الذي له الحق أن يصوت على من يرتئيه مؤهلا، وللأغلبية والمعارضة حق واحد وهو تقديم الترشيحات، ويمكن أن تقدم ترشيحات أخرى من خارج التشكيلتين، أي الترشيحات الفردية، وسيكون مخالفا للدستور وللقانون أن يتم توزيع الأعضاء والمقاعد حسب التمثيلية النسبية داخل البرلمان، لكون المحكمة الدستورية ليست تمثيلية سياسية لحزب معين، بل هي مهمة دستورية أساسا، أي لن تكون هناك لائحة لمرشحي المعارضة أو لمرشحي الأغلبية، إذ حينما يبت فيهما المكتب، يصبحان مرشحي المجلس، وأن التصويت لن يكون على أساس الاستناد إلى مبدأ التمثيلية النسبية، بل هو مسألة ترتبط باختيار الشخص في حد ذاته. إن هذا الموضوع له من الحساسية ما يفرض علينا الابتعاد عن الشوفينية السياسية لفائدة المصلحة العليا للبلد، فهل للبرلمان بكل مكوناته القدرة على ذلك؟ توزيع التمثيليات أما القضية الأخرى التي تفرض نفسها، فهي كيفية توزيع هذه التمثيليات على مستوى المدة الزمنية للانتداب بين من له الحق في التنصيب لثلاث سنوات أو لست سنوات أو لتسع سنوات، وهذه مسألة لها حلول، إما بتحديد المدة بالقرعة، أو بتوزيع الترشيحات بين إعلان لائحة المرشحين حسب المدة، ليتقدم المرشحون وفق هذا التقسيم، وهناك اقتراح آخر يؤكد أن توزيع المدة قد يكون وفقا لعدد الأصوات التي حصل عليها الفائزون، ولكن يبقى السؤال هل هذه المعركة سنقودها بسمو ونزاهة وموضوعية، أم إننا سنقودها بمحسوبية و زبونية وحزبية ضيقة؟ هذا على مستوى مكانة وأهمية هذه المؤسسة، وكذا دقة مسطرة الترشيحات والشخصيات المحتملة للانتخاب داخل هذه المؤسسة الدستورية الهامة. أما على مستوى التوقيت، فنجد أنفسنا أمام سؤال محير مفاده: هل نحن محتاجون إلى تنصيب المحكمة الدستورية في حلتها الجديدة الآن؟ خاصة وأن التركيبة الحالية عاشت ظروف وشروط وضع الدستور الحالي، ولامست النقاشات السياسية التي واكبته، كما أنها كانت مساهما رئيسيا في بناء التجربة الديمقراطية بعد دستور 2011، من خلال مواكبة كل العمل الحكومي والعمل البرلماني، وأسست توجها معينا فيما يخص القوانين التنظيمية التي حددها الدستور في 13 قانونا تنظيميا تداولت المحكمة الدستورية الحالية خمسة منها؟. إن التجربة الحالية للمحكمة الدستورية لا يمكن الاستهانة بها، وأن أي تغيير في مكونات المحكمة الدستورية حاليا سيؤثر في مسارها، وفي الرصيد الذي راكمته، الذي تم جمعه الآن، ما قد يخلق نوعا من الارتباك بين القوانين التنظيمية التي كانت فيما قبل، وبين التي ستحال عليها مستقبلا، علما أن هذه المحكمة قد بدأت عملها، وسينتهي السنة المقبلة وفقا للفصل 86 من الدستور، الذي يفرض على البرلمان أن يصدر القوانين التنظيمية قبل الولاية التشريعية الحالية، كما أن الولاية التشريعية ستنتهي السنة المقبلة، والكثير من اختصاصات مجلس المستشارين ستتغير بتغير جغرافيته التركيبية، ما يتوجب معه تأخير انتخاب تنصيب أعضاء المحكمة الدستورية إلى بداية الدورة المقبلة، وليس في القانون ولا في الدستور ما يخالف هذا التوجه، لكون الدستور ينص في الفصل 177 على التنصيب، وليس على وضع القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، وسيكون ذلك أفضل للقانون، وأفضل لمسارنا الدستوري. النظام الداخلي لمجلس النواب وأعضاء المحكمة لكل غاية مفيدة نحيل على نص قرار المحكمة الدستورية رقم 13/924، في شأن المادتين 43 و222 من النظام الداخلي لمجلس النواب، المتعلقتين بموضوع انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية التي كان منطوق الحكم كالتالي: (حيث إن ما نصت عليه الفقرتان الثانية والأخيرة من المادة 43 والفقرة الرابعة من المادة 222، بشأن انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، من تخصيص منصب واحد في هذه المحكمة لا يرشح له إلا عضو تقترحه المعارضة، وأن هذا المبدأ يراعَى عند تجديد كل فئة من أعضائها، غير مطابق لأحكام الفصل 10 من الدستور الذي يحصر حق المعارضة بهذا الشأن، في اقتراح المترشحين وفي انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية. حيث إن ما تضمنته الفقرة الخامسة من المادة 222 من أنه إذا لم يتجاوز عدد المرشحين (للمحكمة الدستورية) عدد المناصب المحددة، تقدم جميع الترشيحات ضمن لائحة موحدة، يحول دون إعمال ما تنص عليه الفقرة الأخيرة من الفصل 130 من الدستور من كون أعضاء المحكمة الدستورية يختارون الشخصيات المتوفرة على تكوين عال في مجال القانون، وعلى كفاءة قضائية أو فقهية أو إدارية، الذين مارسوا مهنتهم لمدة تفوق خمس عشرة سنة، والمشهود لهم بالتجرد والنزاهة، وهو ما يقتضي تقديم ملفات المرشحين من طرف مكتب المجلس، من خارج البرلمان أو من بين أعضائه، بكيفية فردية، حتى يتمكن المجلس المعني بانتخابهم من تقييمها على ضوء هذه المعايير، ما يجعل الفقرة الخامسة من المادة 222غير مطابقة للدستور). * محام ونائب رئيس مجلس النواب.