صافحني بكف نحيلة ثم سأل هامسا: من؟ أنا تلميذك منذ زمن، شاهدتك وسط الزحام، فلم أدع الفرصة تمر دون أن أتحدث إليك. أشرقت لِحيْتُهُ البيضاء، فأضاءت صورة وجه رسمت تجاعيده ريشة الأيام وقال: لا أحد يذكرنا؟ الجاحد هو من يفعل ذلك، لولاكم لما أشتد عود جيلنا، كنتم القدوة والمثل الأعلى. قد يكون حسن ظَنِّكَ بنا مبررا لما تقول. لا، إن الإحساس بالخشية ذاته، الذي كان يتملكني وأنا قبالتك بالفصل، هو الذي أشعر به الآن. كان الأجر زهيدا، وحافظت الأناقة السَّنَوِيَّةٌ على وجودها: البذلة الرسمية النظيفة، والشعر المصفف، والحذاء الأسود اللامع، ولم يكن هناك من حسيب ولا رقيب إلاّ الضمير، فلم تفتعلوا الغياب بالشواهد الطبية، ولم تتاجروا في الدروس الخصوصية، ولم تقبلوا إغراء وساطة أو سياط ذي نفوذ، ولم تَسْتَعِينُوا بالسحرة لتصبحوا مجرد أشباح! وانعكست الهيبة من لغة العلم والأدب التي ترد على لسانكم، لا كلام نابي، لا ضحك ولا مجون: قاطعني بصوت منخفض: ذاك زمن، وهذا زمن ! لا أيها المعلم، وهو الاسم المفيد للمعني، فالرسول الأمين كان معلّما، وفلاسفة الشرق والغرب كانوا معلمين، وفقهاء المذاهب كانوا كذلك. لقد اشترك في كلمة «أستاذ» الحابل والنابل، وخبا الاسم الجميل في حمأة التفاهة التي نسِيرُ فيها، ونادى المنادي أن تكلموا لغة الشارع، وكسروا جدران المدرسة العمومية، واجعلوا من دور السكن مدارس خاصة، وسموها بأسماء حاملي محفظة المال، أبعدَ هذا تقول يا سيدي: ذلك زمن وهذا زمن. نحن بالونُ العيد المملوء بالهواء، يَسر الناظرين ويتفرقع بوخز الأصابع! زرع بذرة تفاؤل وقال: قد ينصلح الحال ! إن لم نعد للمعلم قيمته، إن لم نقل مع الإمام علي كرم الله وجهه: «من كان هَمّه مَا يَدْخُل إلى جَوْفِه كَانَتْ قِيمَتُه مَا يَخْرُجُ مِنْه». إذا لم نضع حدا لأسباب الغش والتفاهة، ونضع اللبنات السليمة أسسا للبناء، فلا رجاء يُنتظر. اسمع لرئيسة الوزراء الألمانية تقول لمن يجادل في أجر المعلمين: «اعلموا، أن من تجادلون في أجرهم هم الذين علمونا مخارج الحروف، ومن الخجل أن نتكلم عنهم هكذا». مُنْذُ صبانا ونحن نردد الأمثال الذائعة الصيت: العلم نور والجهل عار من جد وجد ومن زرع حصد ونقول مع أحمد شوقي: قُمْ للمعلم وَفهِ التبجيلاَ كاد المعلم أن يكون رسولا فأين نحن من كل هذا، أما ثالثة الأتافي، فهي أن يُيَسِّرَ الغرب لأبنائه سبُل التدريس بطريقة المعلوميات، وتتحَوَّلُ غرفة التلميذ بِمنزله إلى مختبر علمي أدبي جِدُّ متطور، فَنُسَخِّرُ نحن المعلوميات لنشر ثقافة الغش واللهو والكسل. الفرق بين كسول الأمس وكسول اليوم هو أنَّ الأول كان يفيق للذهاب إلى المدرسة تحت وابل من لعنات والديه ووعيدهم، ويدخل إلى الفصل بمحفظة ممزقة، وقلم فارغ، ويظل طوال اليوم أمام باب الإدارة رافعا رجله عقابا. أمّا كسول اليوم، فيفتح بفراش النوم حاسوبه، لينقل أجوبة التمارين من جذورها لتتحقق لدعاة «التعليم عن بعد» غاية لم تخطر لهم على بال: إنها «الكَسَلُ عَنَ بُعْد». ربت معلمي على كتفي، ولمس عن كتب حماسي، ثم حكى لي ما وقع لزميل له: حمل أحد سائقي الشاحنات راجلا استوقفه في الطريق، وقد عاين دركي المرور الرجل منزويا بركن في مقطورة الشاحنة فسأله ماذا تفعل هنا. قال الرجل: أنا طبيب متجه إلى عملي بالقرية المجاورة. زمجر الدّركي ووجه كلامه للسائق هل أنت مجنون، لم لا تُجلس الطبيب بجوارك، لم وضعته مع البضائع. ردّ الجاهل بفم تساقطت أسنانه: اعتقدت أنه «معلم» هل بقي شيء أهون من هذا، استودعك الله يا أخي !! [email protected] رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين