تشعر السلطات المغربية بالقلق من النفوذ المتنامي لفكرة «داعش» بين الشبان المحليين في الفنيدق، ولدى إسبانيا المخاوف نفسها في سبتة، لأن تقسيم العمل بين الحدود يكشف أن المتطرفين الأغنياء في سبتة يقدمون الدعم الوجستيكي للمتطرفين الفقراء على الجانب الآخر من الحدود. وحتى الأمريكيين تنتابهم الهواجس ذاتها، وهم يسعون عبر المباحث الفيدرالية، إلى تنسيق جهود مكافحة الإرهاب عبر الحدود، لتفادي تهديد المصالح والمنشآت في مضيق جبل طارق. حلت فرقة من مكتب التحقيقات الفيدرالي للولايات المتحدةالأمريكية بمدينة سبتة حديثا، لتنسيق تبادل المعلومات حول المتطرفين الموجودين في سوريا، المنحدرين من سبتة، كما حلت فرقة أخرى في تطوان لتحديد قوائم المجندين في «تنظيم الدولة الإسلامية في سورياوالعراق». وأحيطت زيارة مكتب التحقيقات الفيدرالي بسرية تامة، غير أن مصدرا بولاية أمن تطوان أكد أن «التنسيق بين الشرطة المغربية والمباحث الفيدرالية كان قائما منذ سنتين لحصر قائمة الشبان المغاربة المنحدرين من تطوان وضواحيها، المحاربين في صفوف تنظيم داعش». وقال المصدر ذاته إن المباحث الفيدرالية بسبتة دفعت إليه تقارير أنجزتها الاستعلامات العامة بتطوان، حول الدور الجوهري للمتطرفين في سبتة في التأثير على الشبان في تطوان ونواحيها، وتمويل رحلات سفرهم نحو سوريا طيلة السنتين الماضيتين. ولم يحدد المصدر عدد المرات التي حل بها عملاء المباحث الفيدرالية في تطوان أو توقيتها، لكن معلومات مستقاة من سبتة تؤكد أن المباحث الفيدرالية حلت أربع مرات على الأقل في السنتين الماضيتين، آخرها كان قبل ثلاثة أسابيع. وحسب التسريبات الأولية عن مهمة المباحث الفيدرالية، لمحت صحيفة محلية بمدينة سبتة تسمى ELPUEBLO، في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي، إلى أن ما كان يهم هؤلاء العملاء هو درجة فعالية الإجراءات المتخذة على الحدود بين سبتة والمغرب لوقف تدفق الراغبين في الهجرة إلى سوريا، وكيفية مراقبة الأعضاء الناشطين في الاستقطاب والتمويل. وحسب ضابط شرطة مغربي في معبر باب سبتة، فإن مصالح المراقبة في المعبر الحدودي تلقت أوامر مصحوبة ببيان تنقيط الكثير من الأشخاص، سواء المنحدرين من سبتة أو من تطوانوالفنيدق، للحصول على نمط عبور الأشخاص المعنيين، وتحديد وجود روابط بين العابرين المغاربة وبين المقيمين في سبتة . وهذا الأسبوع، شرعت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في تنفيذ عملية مسح واسعة النطاق في مدينة الفنيدق، لكن لم يجرِ بعد توقيف أي أحد من المشتبه في علاقتهم بتنظيمات متطرفة. وكما تعتقد الشرطة في معبر باب سبتة، فإن المتطرفين الموجودين في مدينة سبتة كان لديهم دور جوهري في تسهيل نقل العشرات من الشبان المغاربة إلى سوريا، «ولو لم يقع تدخلهم، لما كانت أعداد المغاربة المنحدرين من مدن شمال المملكة، الموجودين في صفوف تنظيم «داعش»، بتلك الوفرة». وحسب ما صرح به ضابط شرطة، فإن «المتطرفين في سبتة مسؤولون عن نقل 5 من كل عشرة شبان مغاربة من مناطق شمال المملكة، لكنهم مسؤولون عن نقل كل شبان مدينة الفنيدق الموجودين في سوريا». وما يقض مضجع السلطات في الحدود ليس حصر قوائم «المهاجرين» نحو سورياوالعراق، بل مراقبة من لم يهاجر، لأن «داعش»، حسب ما يقول مصدر بالشرطة هناك، نجحت في جذب العشرات من الشبان لصالحها، وهؤلاء يشكلون مصدر خوف أكبر بين الحدود. الفنيدق.. أم قرى داعش لم تكتسب مدينة بالمغرب سمعة في مشكلة سوريا مثل مدينة الفنيدق، فقد تحولت إلى المزود الرئيس للمقاتلين هناك. وحتى أواخر سنة 2013، كان مثيرا للدهشة عدد الشبان المنحدرين من الفنيدق الذين يغذون كتائب «داعش» في سوريا، وبعدها العراق، حيث بلغ 200 شاب. ولبعض المعلومات دوي هائل؛ فأول مغربي التحق بالقتال في سوريا ينحدر من الفنيدق. اسمه عبد العزيز المحدالي، ثم لحق به بعد فترة وجيزة شخص ثان يدعى محمد الياسيني، وكلاهما قتلا هناك. ومنذ ذلك الوقت، أي في زمن تقريبي بين مارس وماي 2012، تزايد رحيل الشبان المنحدرين من الفنيدق نحو سوريا، حتى وصل عددهم إلى 200 في مارس 2014. ثم توقف كل شيء مع تنفيذ السلطات المغربية خطة لمنع سفر المرشحين للانضمام إلى المنظمات المتطرفة في سوريا. ولم تشرع الشرطة في الانتباه إلى رحلات الشبان المنحدرين من الفنيدق حتى عام 2013، وكان عدد الملتحقين ب«داعش» وقتها لم يتجاوز سقف ال100. وكانت الشرطة بين الفينة والأخرى توقف خلايا إرهابية، في 2013. وفي أربع عمليات نفذتها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالفنيدق، طيلة ذلك العام، نجحت في توقيف نحو 25 شابا كانت أدوارهم تتراوح بين تعريف شبان بمتطرفين من سبتة، أو تنسيق جهود الاستقطاب، ونقل أموال تمويل رحلات السفر. وحتى منتصف 2013، كانت نتائج أعمال المتطرفين المتحصنين في سبتة أفضل من توقعاتهم، وحتى عمليات الشرطة المغربية لم تنجح في وقفها أو التقليل من آثارها. ويعتقد ضابط شرطة أن أولئك المتطرفين نجحوا في الفنيدق أكثر مما فعلوا في سبتة، حيث يقول: «حتى يونيو 2013، لم يكن عدد الرجال المقاتلين في تنظيم داعش، المنحدرين من سبتة، يتجاوز 10 أفراد، وفي سنة 2012، أحس هؤلاء بأن الاستقطاب في سبتة غير فعال بالدرجة التي ينشدونها، وهكذا، قرروا تحويل اهتمامهم نحو الفنيدق. وبفضل أموالهم، كانت النتائج المحققة جيدة بالنسبة إليهم على كل حال». بلغ عدد الشبان المنحدرين من الفنيدق الموجودين في ساحات القتال في سوريا مستويات قياسية، حتى إن الكثيرين فقدوا قدرتهم على ضبط الحساب، وشرعت العائلات في حصد الخسائر. كانت عمليات الرحيل في بداية الأمر، محدودة، وتجري بشكل فردي، لكنها سرعان ما أصبحت جماعية. «في بعض المرات، كنا نفقد أثر خمسة إلى ثمانية شبان في يوم واحد». وعبارة «فقدان الأثر» تحيل إلى الصياغة الأمنية المرتبكة آنذاك إزاء هجرة الشبان نحو جبهات القتال في سوريا. 200 داعشي في قرية! في العام المنصرم، كانت قائمة المهاجرين قد بلغت 100 فرد. وفي مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 60 ألفا على أقصى تقدير –حسب الإحصاء العام لسنة 2004- فإن فقدان 100 شاب في أقل من عام كانت «كارثة»، حسب ضابط الشرطة، لكن العدد لم يتوقف عن الارتفاع حتى بلغ نحو 150 فردا. كان تعامل السلطات مع المشكلة مثيرا للجدل، لأن فرقا مهيأة على نحو مناسب، كالفرقة الوطنية للشرطة القضائية، كانت تقتاد كل مرة في 3 أشهر مجموعة من الشباب بالفنيدق نحو سجن سلا، غير أن السلطة المحلية كانت تستمر في تسليم جوازات سفر لشبان آخرين كانت الشرطة تضعهم تحت مراقبة خفيفة، ثم ينتقل أعوانها إلى أفراد من أقاربهم يحذرونهم من مخططات أبنائهم للسفر إلى سوريا، وقد حدث ذلك في حالات متعددة، كانت آخرها قضية سفر جواد الجازولي، وهو شاب لا يملك شيئا غير أجر يومي لا يتعدى 30 درهما كان يتقاضاه من العمل لدى بائع للأفرشة. كما أن بعضا من عائلات الشبان الذين سافروا إلى سوريا حاولت «إقفال الحدود» في وجه أبنائها لكن دون جدوى. كانت الشرطة المحلية تقف حائرة إزاء الظاهرة. وحسب ضابط شرطة، فإن عملية جمع المعلومات كانت لا تتوقف منذ أول سفر لشاب من الفنيدق، لكن دور الشرطة كان محددا: «اجمعوا المعلومات واتركوا تحليلها وتنفيذ التوقيفات لنا.. هذا ما كانوا يطلبونه منا، وفي كثير من الأحيان، كنا نشعر بأننا مقيدون ونحن نراقب مرشحا يرتب أمتعته للسفر دون أن نستطيع منعه». وبينما كان الشبان المسافرون يستقرون في مواقعهم الجديدة في سوريا، كان المتزوجون منهم يهيئون المرحلة الثانية من خطة «الهجرة إلى الله»: ترحيل زوجاتهم وأبنائهم من الفنيدق إلى سوريا، وحتى هذه العملية لم تكن صعبة كذلك، لأن مقابل تذاكر السفر كان مدفوعا سلفا، وما كان يهم الجميع وقتها هو أن الطريق مأمونة العواقب. وتحولت هذه الخطة إلى مأساة جديدة، لأن كثيرا من أبناء الفنيدق قتلوا في المعارك تاركين زوجاتهم أرامل وأولادهم يتامى، والأدهى أن «داعش» منعتهن من مغادرة البلاد. وكانت الشرطة المحلية قد راقبت شخصا يدعى أحمد الحدوشي لفترة طويلة، عقب خروجه من السجن، و«من المؤكد أن الرجل كان يخطط للسفر إلى سوريا، لكن ليس وحده، بل ضمن مهمة خاصة»، كما يقول ضابط شرطة، لكنهم لم يوقفوه، وغادر الحدوشي عبر مطار محمد الخامس وبرفقته زوجته واثنان من أبنائه، وعشر نساء هن زوجات مقاتلين آخرين من الفنيدق، ثم غادر بعده شقيقه، ولم يعترض مساره أحد. سبتة.. محطة ضخ كيف يمكن أن تتحول الفنيدق إلى مصدر رئيس للمقاتلين المغاربة في سوريا؟ قامت الشرطة بعملها، وربما لايزال لديها ما تفعله هناك، لكن السياسيين ومعهم السلطة المحلية لا ينظرون باكتراث شديد إلى هذه المشكلة، لأن رحيل شبان، ولو بنسبة كبيرة، نحو سوريا لم يكن يمثل يوما مشكلة بالنسبة إليهم، ولم يطرح أحد تساؤلا حول سبب كون الفنيدق مصدرا لكل هؤلاء المقاتلين. لقد أصبحت الفنيدق مدينة معروفة لدى «داعش»، وحتى وإن توقفت عمليات الرحيل، فإن مساحات سيطرة «داعش» داخل الفنيدق لا يمكن إخفاؤها ببساطة؛ وكما يروي ضابط شرطة عمل على وضع قوائم المقاتلين المنحدرين من الفنيدق، فإن تحليل مدى الانتشار يكشف وضعا سيئا: «إننا نضع في الحساب أن كل مقاتل ينحدر من الفنيدق في سوريا يمثل 1/5 من المتطرفين ذوي الولاء لتنظيم داعش هنا بالفنيدق.. وحينما نحتسب الراحلين والمعتقلين، فإننا نصل إلى رقم مفرع: 200 فرد! هل يكون بيننا 1000 داعشي؟ حتى ولو كان عددهم 500 فحسب -وهذا عدد واقعي- فإننا يجب أن نشعر بالرهبة». كانت شهرة الفنيدق دوما، حتى حدود 2001، تكمن في قدرة باروناتها في المخدرات على تجاوز كل العقبات البيروقراطية لدى السلطة، ومراكمة الأموال، كما هو حال الآلاف من التجار ممن يعيشون على سلسلة طويلة من تهريب السلع. ولم يتغير هذا الأمر على نحو واضح، سوى في العام 2004، حينما شرع أفراد في الرحيل نحو العراق. كان هؤلاء من التجار المعروفين، وكانت صدمة. في 2014، تمكن ضباط الشرطة من إحصاء أكثر من 40 فردا كانوا يعملون بالأسواق الرئيسة في مدينة الفنيدق ضمن المقاتلين الموجودين في سوريا. ولطالما راجت أقاويل بوجود خلايا في تلك الأسواق وتحولها إلى مصدر للمقاتلين في سوريا. ولم تكن عملية الرحيل نحو سوريا، بوصفها أيضا عملية غير قانونية، سوى تجسيد لممارسات سائدة في المدينة، فالناس يعرفون كيف يخدعون القانون، وهم يفعلون ذلك يوميا، والأهم أنهم مرتبطون بقوة بالناس الآخرين الذين يعرفون أيضا كيف يخدعون القانون في الضفة الأخرى من الحدود، أي سبتة. وفي فترة من عام 2010، تغير الكثير من الأشخاص، الذين كانت مهنتهم تهريب المخدرات، وأصبحوا رجالا أتقياء، وبعدما سيطروا على مساجد في سبتة، ضُخت أموالهم في عمليات شراء الأتباع. وبسرعة، أنتجت هذه التركيبة المتفجرة العناصر الرئيسة لدعم وتمويل رحلات الجهاد. كان يتملك رئيس الحكومة المحلية بسبتة الشعور بالخوف وهو ينظر إلى هذه السلسلة المركبة بين الحدود، وخلص، كما قال في تصريح في 2013، إلى أن «أي عملية ضد خلايا في سبتة، لا يمكن أن تكون فعالة دون أن تضرب السلطات بقوة في الفنيدق». فجأة، وبعد سلسلة من عمليات التوقيف في سبتة، تجمدت قليلا قائمة الشبان المنحدرين من الفنيدق المسافرين في رحلات الجهاد نحو سوريا، لكنها لم تتوقف نهائيا حتى قررت السلطات المغربية أن تنهي الأمر لمرة أخيرة. ومع ذلك، ليس توقيف هجرة الشبان المنحدرين من الفنيدق هو ما يهم السلطات على الجانبين، ولا منع تمويل رحلات مفترضة، ولكن الشعور المتزايد بأن «داعش» أصبحت تُعشش على طرفي الحدود، وتنمو بشكل تدريجي ورهيب. «منع الشبان من السفر هو جزء من عملية مكافحة داعش، لكنه ليس كل شيء، ورغم أهميته إلا أننا نركز على إمكانية قيام الأفراد الممنوعين من السفر بتطوير مخططات محلية. إننا هنا على مقربة من مضيق جبل طارق، وعلينا أن نقف عائقا في طريق تحولهم إلى تنفيذ عمليات هنا، وهذا هو العمل الصعب، وهو ما تسعى المباحث الفيدرالية إلى التنسيق بشأنه»، كما يقول ضابط شرطة. عمر الحدوشي، وهو شيخ سلفي معروف في تطوان، يتعاطف مع المقاتلين المغاربة في سوريا، لكنه لا يميل إلى «داعش»، وقد أفصح في إحدى المرات عن سر صغير: «تريد أن تعرف من يرسل من، ومن يمول من، ومن يخطط لماذا؟ اذهب وابحث في سبتة. أما هنا (يقصد الفنيدق) فلن تجد شيئا مهما على الإطلاق!». المقاتلون الذين لا ينتحرون! في السجل المقاتلين المغاربة المنحدرين من مدينة الفنيدق، لم ينفذ واحد منهم عملية انتحارية في سوريا، بينما كان الشبان المنحدرون من سبتة يتسابقون على هذه العمليات. إن الرموز التي يحتفي بها الكثيرون في الفنيدق «لم تفعل شيئا غير القتال ببسالة»، كما يقولون. عبد العزيز المحدالي، أو أبو أسامة المغربي كما يعرف عند «داعش»، تحول من جبهة النصرة إلى تنظيم الدولة، وحقق لنفسه مجدا خاصا. في نهاية المطاف، لم تقتله رصاصة أو مدفع العدو، بل قتله رفاقه القدامى في جبهة النصرة، ولأنه كان ذا شأن، فإن «داعش» قتلت الكثيرين من جبهة النصرة ثأرا لدمه. حظي موته بتأبين واحد من كبار قادة «داعش»: أبو عمر الشيشاني، وسميت حواجز تفتيش باسمه، وقد لا يستبعد أن تسمى مدارس أو شوارع باسمه في مناطق سيطرة «داعش». وفي حالة أخرى، قُتل شاب بسبب تفجير عبوة، لكنه لم يكن انتحارا مقصودا. أيوب الشعيري الرهوي قتل في تدريب على القنابل والمفخخات. كانت نهاية سيئة لشاب لم يمض أكثر من أسبوع على وصوله إلى هناك. وفي الحصيلة الأخيرة، أصاب رصاص «العدو» 20 شابا من الفنيدق، آخرهم في الأسبوع المنصرم، وهو شاب كان يعمل مدربا رياضيا.