ظاهرة مثيرة وصادمة تعيشها مناطق فقيرة ومهمشة في المغرب، تعيد إلى الأذهان صور الرقيق الأبيض والنخاسة كما عاشتها البشرية في عصورها الغابرة والمظلمة. بنواحي إقليمقلعة السراغنة، يوجد آباء يقدمون بناتهم القاصرات كرهائن لدى أشخاص يفعلون بهن ما يشاؤون.. يستغلونهن جنسيا أو يتخذونهن خادمات، مع إمكانية إعادتهن إلى عائلاتهن متى رغبوا في ذلك، محملات بأبناء ولدوا من «هذا الرهن»، وبالكثير من العار.. وهو ما يطلق عليه اسم «زواج الكونطرا». من المعروف أن القانون يفرض أن تبلغ الفتاة سن الثامنة عشرة قبل الموافقة على زواجها، أو أن يوافق القاضي على تزويجها إذا كانت قاصرا، لذلك يتم التحايل لتزويج الفتاة الصغيرة عن طريق «زواج الكونطرا»، حيث يتم إبرام التزام يقر فيه «الزوج»، في عقد مكتوب، بأنه مدين لوالد الفتاة بمبلغ مالي (يتراوح بين 20 ألف درهم و60 ألف درهم)، فيعامل الزوج الفتاة معاملة الأزواج، طيلة فترة العقد، وإذا رغب في «الطلاق» يصبح من حق الأب أن يطالبه بمبلغ عقد السلف، أما الفتاة فتعود إلى بيت أهلها، وأحيانا تكون حاملا أو بين يديها رضيع، وأحيانا يتم طردها من بيت الزوجية جون أن يعترف الرجل بأنها كانت تسكنه يوما. العملية هي استغلال لفتيات مغلوبات على أمرهن، تعاني أسرهن العوز المادي، أما في نظر الشرع فهي محض زنا واعتداء على طفلة لم تبلغ بعد سن الزواج، ومن الناحية الحقوقية، فالعملية فيها اغتصاب للحقوق الطبيعية للفتاة، كالحق في اللعب والدراسة والحق في حياة حرة، وهو ما يترتب عليه جرح في شخصيتها ونفسيتها. الظاهرة أصبحت متفشية بشكل كبير في إقليمقلعة السراغنة، بل الأدهى أن السكان أصبحوا يتعايشون معها ويعتبرونها أمرا عاديا، إذ ومن خلال جولة قصيرة في المنطقة، وبعد سؤال بعض السكان، يمكنك سماع جواب موحد: «أغلب الفتيات هنا يتزوجن عبر زواج الكونطرا». أبطال هذه القصص غالبا ما يكونون شبابا مهاجرين يرغبون في الارتباط بفتاة من أجل قضاء عطلة الصيف، وتركها وراءهم بعد مغادرتهم إلى بلدان المهجر، أما النوع الثاني فهم سكان الدواوير الذين يجلبون الفتاة الصغيرة إلى بيت العريس من أجل استغلالها جنسيا، والعمل كخادمة في البيت وكعاملة في المجال الزراعي. وقد أكد العديد من الحقوقيين أن ظاهرة «زواج الكونطرا» انتشرت في منطقة قلعة السراغنة، وانتقلت بعدها إلى خريبكة ونواحيها، وهي المناطق المعروفة بهجرة أبنائها إلى الديار الإيطالية والإسبانية. «زواج بالكونطرا» ظاهرة مستشرية وصادمة في قرى ومداشر المغرب الفقيرة. طفلات في الثانية عشرة من العمر، إلى الرابعة عشرة في أقصى الأحوال، يتم تزويجهن بطريقة غريبة، يطلقون عليها في قلعة السراغنة، وفي خريبكة أيضا، التي انتقلت إليها الظاهرة، «زواج الكونطرا». في هذا الزواج، الذي يجمع الأخصائيون النفسانيون وعلماء الدين والحقوقيون على أنه «زنا» أو «استغلال جنسي»، يتم فيه التحايل على القانون الذي يشترط سن الثامنة عشرة لتزويج الفتيات، بعقد يعترف فيه الزوج بأنه مدين لوالد الزوجة، حتى إذا أراد تطليق الفتاة، وهو ما يقع غالبا، يطالبه الأب بالقدر المالي المسجل في «اعترافه بالدين». المثير أن غالبية الزيجات من هذا النوع تنتهي بالانفصال قبل أن تبلغ الفتاة سن الزواج. سوق الرقيق الأبيض والنخاسة مازال رائجا في مغرب العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. هنا، وسط المغرب العميق، حيث يستشري الفقر والجهل، يتم تزويج فتيات قاصرات أو بالأحرى طفلات، لم يصلن بعد إلى السن القانونية للزواج، عن طريق التحايل على القانون، بواسطة إبرام عقد يسمى «الكونطرا»، التي يلحق بها لفظ الزواج، فتصير «كونطرا الزواج» أو «زواج الكونطرا». في هذا العقد، يضع الأب ابنته «رهينة» لدى شخص ميسور، غالبا ما يكون من المهاجرين في الخارج، مقابل اعتراف الزوج بأن بذمته مبلغ مالي لوالد الفتاة. وتنتقل الفتاة إلى بيت صاحب المال، وتعاشره معاشرة الزوجة لزوجها، وتقوم بأعمال السخرة في بيته وبيت والديه، حيث تتخذها عائلته خادمة إلى أن يشبع الزوج رغباته منها، فتعود الأمَة منكسرة الخاطر مطأطئة الرأس إلى أهلها، وأحيانا تكون حاملا أو بين يديها طفل. المحامي الراجي الحسين، الكاتب العام لجمعية النخيل للمرأة والطفل بمراكش، يرفض إطلاق لفظ «زواج» على هذا العقد، ويقول: «إنه ليس زواجا بالمفهوم القانوني والشرعي للزواج، وإنما هو نوع من الاستغلال الجنسي لفتيات مغلوبات على أمرهن، تعاني أسرهن عوزا ماديا، حيث يقوم الأب ب«رهن» ابنته لشخص «الزوج» مقابل عقد سلف بمبلغ مالي (بين 30.000 و50.000 درهم)، وعادة ما يكون «الزوج» من المهاجرين بالديار الأوربية، خاصة الإيطالية، فيعاشر الفتاة معاشرة الأزواج، طيلة فترة العقد. وإذا رغب الزوج في «الطلاق»، يصبح من حق الأب أن يطالبه بمبلغ عقد السلف، وقد انتشرت هذه الظاهرة في منطقة قلعة السراغنة، وانتقلت بعدها إلى خريبكة ونواحيهما، وهي المناطق المعروفة بالهجرة إلى الديار الإيطالية والإسبانية». بقلعة السراغنة، طرحنا السؤال، بشكل تلقائي، على أول من صادفناهم من سكان الجماعات التي تنتشر بها الظاهرة، فكان الجواب صادما ومتشابها: «هناك العديد من الحالات»، بل يمكنك أن تستشف من الإجابات أن ما يطلقون عليه «زواج الكونطرا» أضحى ظاهرة طبيعية بالنسبة إلى عدد من الناس هنا، فهم يؤكدون أن هذه هي الطريقة الأكثر تداولا ل«الزواج»، في الحالات التي تكون فيها الفتاة قاصرا، على الرغم من أنهم يعلمون أن العملية غالبا ما تنتهي بإعادة الفتاة الصغيرة إلى أهلها خائبة منهارة جراء معاناتها في بيت الزوج. الكونطرا.. اعتراف بدين الغريب في الأمر أن الكونطرا التي تعقد ما بين من يطلق عليه «الزوج» ووالد الفتاة ليست سوى عقد اعتراف بدين يصرح فيه الزوج بتسلمه مبلغا من المال من الأب، ويلتزم بإعادته. بوشعيب زكري، ممثل مرصد الحريات وحقوق الإنسان بجهة مراكش-تانسيفت-الحوز، أكد أن العديد من العائلات في الإقليم تلجأ إلى تزويج بناتها بواسطة هذه الطريقة، قائلا إن السبب يكمن في رفض «قاضي التوثيق تزويج الفتاة لأنها مازالت قاصرا»، حينها تلجأ العائلات إلى عقد بدين يتراوح ما بين مليوني سنتيم وستة ملايين سنتيم». شاهد على التحايل تعاطي أهل المدينة مع الموضوع، واستفحال الظاهرة بشكل مستشرٍ بالإقليم، دفعنا إلى البحث عن مدى انتشار الظاهرة لدى المصالح الإدارية، وعن طريقة إبرام هذه «الكونطرا»، وكيف يسمح لهؤلاء الناس بإبرام مثل هذه العقود. طرقنا باب مصطفى زروال، متصرف إطار ببلدية قلعة السراغنة، الذي سبق له أن اشتغل بمصلحة تصحيح الإمضاءات، وأكد لنا أنه كان يستقبل على الأقل ثلاث حالات في الأسبوع ممن يرغبون في المصادقة على عقد السلف، مشيرا إلى أنه كان يفهم أن الغرض من هذه العقود هو تزويج فتاة قاصر، مستدركا: «العقد لا يتضمن أية إشارة إلى أن هذا المبلغ تم تلقيه مقابل تزويج فتاة، فهو أمر مرفوض قانونيا». واعتبر زروال أن هناك جهة ما توجه هذه العملية قائلا: «يمكن أن تكون في المحكمة أو الجماعات أو ببساطة بفعل انتشار الظاهرة بين العائلات»، حسب تعبيره. المهاجرون إلى الخارج على رأس المعنيين مدينة قلعة السراغنة، التي توجهنا إليها للتحقق من الأمر، من المدن المغربية التي تُعرف بهجرة شبابها إلى البلدان الأوروبية، وأساسا إلى إيطاليا وإسبانيا، لذا فهؤلاء الشبان وعند عودتهم من أجل قضاء عطلة الصيف، تكون قد توفرت لديهم مبالغ مالية تسمح بقضاء العطلة الصيفية بطريقة استثنائية، قد تكون ترتيب زيجة على هذه الشاكلة، كما يعترف بذلك مصطفى زروال. سمية، واحدة من الطفلات اللواتي كنَّ ضحايا زواج الكونطرا، إذ انتُزعت من كراسي الدراسة ليزج بها داخل غرفة الزوجية، في بيت ذاقت فيه جميع أنواع العذاب، وهي طفلة لم تتجاوز بعد سنتها الرابعة عشرة. عاشت قصة لم تدم سوى ستة أشهر بطلها شاب مهاجر من إيطاليا. عقد قران سمية كان أيضا عبارة عن اعتراف بدين، مقداره أربعة ملايين سنتيم. بعد أن قضى «العريس» عطلة الصيف رفقة سمية، تركها في بيت العائلة وغادر إلى إيطاليا حيث يعمل. الفتاة الصغيرة تحملت خلال تلك الفترة أعباء البيت الكبير، وعلى الرغم من ذلك، فالحماة كانت تعاملها معاملة قاسية. ستة أشهر من العذاب قضتها الطفلة الصغيرة في عش الزوجية، بدون زوج، قبل أن تقرر الحماة إرسالها إلى بيت والدها بدعوى أنها «غير صالحة للزواج». العلاقة لم تنتهِ عند هذا الحد، بل وأمام طمع الأب وجشع «الزوج» نشأت عداوة بين العائلتين لم يكن سببها ضياع مستقبل طفلة صغيرة، بل مبلغ الرهن الذي أبى الزوج إعادته، حيث وصلت القضية إلى ردهات المحاكم، ولم يتم الحسم فيها بعد. دوار الوناسدة ليست قلعة السراغنةالمدينة الوحيدة التي تعرف ظاهرة زواج «الكونطرا»، بل وعند سؤال بعض سكان المدينة أشاروا إلى أن الظاهرة مستشرية بشكل أكبر في الدواوير المحيطة بها، خاصة دوار يطلق عليه اسم الوناسدة. كثرة ترديد هذا اسم الدوار من طرف كل من توجهنا إليهم لسؤالهم، اضطرتنا إلى زيارته للوقوف على مدى صحة ما يقوله السكان. انطلقنا من وسط المدينة إلى الدوار الذي يقع على بعد بضعة كيلومترات، والذي تفصله عن المدينة طريق ضيقة غير معبدة يصعب مرور السيارات بها. الأرض هنا قاحلة جافة ممتدّة على مد البصر.. بيوت متواضعة وسط مكان معزول. الفقر يسود المكان، ووجوه البسطاء أحرقها لهيب شمس تواطأت مع الفقر لزيادة عذابات سكان يرتدون أسمالا بالية. صادفنا احتفالا بزفاف إحدى بنات الدوار. هنا الفتاة إذا تجاوزت سن السابعة عشرة دون أن تدخل القفص الذهبي يطلق عليها لقب «بايرة»، أما إذا بلغت العشرين سنة فهي تصبح «شارفة»، حسب ما أكده عدد من سكان الدوار ل«أخبار اليوم»، فالفتيات في هذا الدوار يتزوجن وأعمارهن لا تتجاوز 12 أو 14 سنة، وبعضهن يكملن حياتهن رفقة الزوج إلى أن ترزق بطفل أو طفلين فيتم اللجوء إبرام عقد الزواج، أما غالبيتهن فتتم إعادتهن إلى بيت أهاليهن بدعوى أنهن «غير صالحات للزواج». الغريب في الأمر هو أن كل فتيات الدوار تزوجن، حسب ما أكدته امرأة من السكان، قائلة: «حنا كنقلبو لخويا على شي بنت للزواج ومالقيناش.. كلشي البنات كيطيرو ملي كيوصلو ل12 عام». الإقبال على الزواج في هذا الدوار بواسطة «الكونطرا» لا يكون الغرض منه أساسا هو بناء علاقة زوجية مبنية على الود والتفاهم، بل يراد منه أساسا جلب خادمة إلى البيت تتكفل بجميع أعبائه، ويتم استغلالها في أعمال السخرة، وتساعد على تلبية غرائز شاب بهرت عينيه حسناوات أوروبا، فيعود ليبحث بين بنات دواره عن فتاة فقيرة تشبع رغباته. محمد زروال، رئيس الكتابة الإقليمية لمركز حقوق الناس بإقليمقلعة السراغنة، أشار، في تصريح ل« اليوم24»، إلى أن الفتيات الصغيرات اللواتي يتزوجن بهذه الطريقة يتم «استغلالهن جنسيا، حيث يعملن كخادمات بيوت وعاملات في المجال الزراعي، إذ من المعروف أن المنطقة تشتهر بتربية الدواجن والأبقار وأيضا بنشاطها الفلاحي»، مضيفا أن الكونطرا ليست سوى «تحايل على القانون من أجل تزويج الفتيات القاصرات». زواج بكونطرا وهمية هاجر فتاة تظهر عليها ملامح جمال محت قسوة العيش بعض تقاسيمه، فعلى الرغم من صغر سنها، إذ لم تتجاوز بعد الستة عشر ربيعا، وجمالها الظاهر، وقوامها الممشوق، إلا أن وجهها شاحب، وعينيها غائرتان في محجريهما. قصة هاجر تختلف عن قصص باقي فتيات «زواج الكونطرا»، فزواجها لم يكن بسبب خطيئة والد ظلم ابنته، بل بسبب شاب احتال على فتاة غريرة لا حول ولا قوة لها، حيث أغراها بعبارات الحب إلى أن أصبحت عشيقة له. علاقة هاجر بسعيد بدأت عندما كان يلاحقها وهي عائدة من المدرسة إلى بيتها. تحكي هاجر ل« اليوم24» قائلة: «في البداية لم أكن أعرف معنى ما يقوله، لكن مع توالي الأيام، وأمام إصراره الشديد استطاع التأثير علي إلى أن تعلقت به إلى درجة كبيرة». هاجر التي توقفت عن الدراسة بسبب سعيد، اضطرت إلى الوقوف في وجه والديها حتى يقبلا بقدومه لخطبتها مستخدمة بعض عبارات التهديد قائلة: «غير هو ولا ندير شي حاجة فراسي»، بل تطور الأمر إلى درجة أنها حاولت الانتحار عبر قطع شرايين يدها، لكن محاولتها باءت بالفشل. إصرار هاجر قابله تعنت الوالد الذي استمر في رفض الشاب بسبب سمعته السيئة وصغر سن هاجر. ورغم ذلك، استمرت الفتاة المراهقة في مقابلة الشاب الذي طلب منها في يوم من الأيام مرافقته إلى بيته، فما كان منها إلا أن انصاعت لطلبه. تحكي هاجر وعيناها مغرورقتان بالدموع أنها حينما رافقت سعيد إلى بيته احتجزها ومنعها من الخروج قائلا: «أصبحت زوجتي الآن». مر أسبوع على وجودها لديه قبل أن يقوم بعمله الشنيع ويفتض بكارتها. والدة هاجر سيدة يظهر على ملامحها بؤس شديد وانكسار ظاهر بسبب حال ابنتها، تحدثت عن الفترة التي اختفت فيها هاجر قائلة: «في تلك الأيام بحثنا عنها كثيرا، والغريب في الأمر أن سعيد كان يبحث معنا عنها كأنه لا يعرف أين توجد». ثلاثة أشهر قضتها هاجر في بيت سعيد بدون أي ورقة تثبت زواجها منه، ودون أن تدري عائلتها شيئا عن المكان الذي توجد فيه، إلى أن بدأت تظهر عليها بوادر حمل. آنذاك، قام بإبلاغ عائلتها بأنها توجد لديه، ففرض عليه الأب الزواج من الفتاة، إلا أن المحكمة رفضت طلب الزواج لأن هاجر مازالت قاصرا، فوجدت العائلة في «الكونطرا» بديلا عن عقد الزواج من أجل «ستر شرف ابنتها»، فلجأ الأب إلى تسجيل «وعد بدين» يلتزم فيه سعيد بأنه دائن بمبلغ أربعة ملايين سنتيم للأب، دون أن يتسلم هذا الأخير المبلغ فعلا، إذ إن العملية كانت عبارة عن ورقة ضغط يستطيع الأب من خلالها إجبار سعيد على الالتزام بوعده حينما تبلغ ابنته السن القانوني للزواج، فيعقد قرانه عليها، إلا أن العلاقة لم تستمر حتى ذلك الحين، وسرعان ما انتهت بعد أن أسقطت هاجر الجنين متهمة حماتها بأنها السبب في حدوث هذا الإجهاض قائلة: «خلال أحد الأيام كنت أحس بألم شديد في الرأس فأعطتني حماتي قرصا مهدئا، ولم تمض سوى بضع ساعات على تناولي ذلك القرص حتى أجهضت طفلي». وروت هاجر وهي تجهش بالبكاء تفاصيل الأيام التي قضتها في بيت «عريسها» مع عائلته «المتسلطة»، قائلة إنها كانت تقوم بجميع أعباء البيت من «تصبين» وطبخ وغسل للأواني وغيرها، لكن هذا كله لم يكن يرضي الحماة التي كانت تكيل لها الشتائم، بل وصل الأمر إلى حد الاعتداء عليها بالضرب، ومنعها من الأكل لمدة وصلت في إحدى المرات إلى أسبوع كامل. تقول هاجر: «كل ما كنت أحتاجه منهم هو مجرد سماع كلمة طيبة». انتهت هذه العلاقة غير الشرعية بعد أن ضاقت هاجر ذرعا بحياة بئيسة وسط بيت ينبذها جميع من فيه، فقررت العودة إلى بيت أهلها، بعد سبعة أشهر، ورفع دعوى قضائية من أجل ثبوت الزوجية، إلا أن سعيد أنكر، في كل مراحل الدعوى القضائية التي مازالت أطوارها مستمرة، أن تكون قد جمعتها أية علاقة به. الأم أصبحت اليوم خائفة جدا على فلذة كبدها الوحيدة بعد أن خرجت من هذه التجربة منهارة نفسيا، وأمام غياب أي معين لها لمواجهة مشاكل كثيرة، خاصة أن الوالد بات يرفض وجود ابنته في البيت، ما يجعلها تفكر في الهرب، ما يفتح المجال أمامها لولوج مستقبل مجهول ومتاهات لا نهاية لها. زواج القاصرات.. جرائم في حق الأطفال الزواج في سن مبكرة تنتج عنه مشاكل وعنف جنسي وجسدي تكون ضحيته الفتاة القاصر. في هذا الإطار، تروي نادية بوسوف من مركز الاستماع إلى النساء ضحايا العنف، التابع لجمعية النخيل بمراكش، واحدة من حالات عديدة تتوافد على المركز بشكل مستمر. بوسوف حكت لنا قصة نبيلة، البالغة من العمر خمسة عشر عاما، والتي هربت من حياة البادية بالزواج من شاب يكبرها سنا في المدينة معتقدة أنها تفر من الجحيم، إلا أنها كانت كمن يستجير من الرمضاء بالنار، فهربها أوصلها إلى حياة أشبه ما تكون بالجحيم. تروي بوسوف أن نبيلة ذاقت في بيت عائلة زوجها أشد أنواع العذاب والاحتقار، فبعدما هربت من قسوة البادية وضيق العيش، وجدت نفسها وسط عائلة تتخذها خادمة وتصفها بأحقر العبارات نهارا، وبين يدي زوج مدمن على الكحول يمارس عليها جميع أنواع العنف بداية بالاغتصاب، ووصولا إلى الضرب والجرح، وبعد الانتهاء منها كل ليلة يطردها خارج الغرفة، ولا يستقبلها إلا في الليلة التالية ليتكرر السيناريو نفسه. وحين كانت نبيلة تزور أسرتها الفقيرة مستنجدة من أجل إنقاذها لم تكن تجد سوى عبارة: «صبري أبنتي»، إلا أن صبرها وصل إلى أقصى مداه، فقررت الانتحار عبر قطع شرايين يديها، لكن محاولتها باءت بالفشل، فما كان أمام عائلتها سوى البحث عن سند لإنقاذ ابنتها، فلجأت إلى مركز الاستماع. تصف بوسوف لحظة استقبالها نبيلة قائلة: «عندما أتت كانت منهارة، ووجهها مليء بالكدمات، وجسدها يحمل الكثير من آثار الضرب، كما كانت تخفي يديها بسبب خجلها من محاولة الانتحار»، مؤكدة أن الجمعية استطاعت أن تساندها إلى أن حصلت على الطلاق. إذا كانت حالة نبيلة لم تجد لها صدى في وسائل الإعلام، فإن عدة نماذج أخرى سلطت عليها الأضواء، من بينها قصة خولة ذات ال17 ربيعا، التي قام زوجها بتشويه وجهها وجسدها بعدة طعنات بالسكين. قصة خولة القاطنة بمراكش، والتي تابعها الرأي العام خلال الأيام الماضية، انتهت بإعلان القاصر مسامحتها لزوجها خلال مكالمة هاتفية مع إحدى الإذاعات الوطنية، بل الأدهى أنها أعلنت أنها ستنتحر إن لم يتم إطلاق سراحه. ولعل أبرز قضايا العنف ضد القاصرات كانت قضية أمينة الفيلالي من العرائش التي انتحرت بعد أن تزوجت من مغتصبها قبل حوالي سنتين. أسرة الفتاة قالت إن الشاب اختطفها واغتصبها، وبعد رفع دعوى قضائية ضده تم تزويجها منه، إلا أن وزارة العدل تدخلت على الخط، وأصدرت بيانا تقول فيه إن القاصر أمينة الفيلالي «كانت على علاقة بالشخص الذي تزوجها بعد أن فقدت بكارتها برضاها». بعد زواج الفيلالي من مغتصبها انتهت القصة بانتحار القاصر عبر شرب سم الفئران. وعلى الرغم من تضارب أقوال أسرة الفيلالي ووزارة العدل بشأن القضية، إلا أن القصة حركت المجتمع المدني من أجل المطالبة بإلغاء الفصل 475 من القانون الجنائي، الذي يتيح تزويج القاصر من مغتصبها، وكانت فوزية العسولي، رئيسة الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة، قد اعتبرت آنذاك أن الدافع وراء انتحار الفيلالي هو إجبارها على الزواج من مغتصبها، في حين اعتبرت أصوات أخرى أن تعنيفه لها هو الدافع وراء ذلك. وكان تقرير صادر عن الشبكة الوطنية لمراكز الاستماع إلى النساء ضحايا العنف «أناروز»، عام 2012، أكد أن العديد من الزوجات القاصرات يتعرضن للعنف الجنسي في المقام الأول، ويأتي بعده العنف الجسدي. وأشار التقرير إلى تزايد عدد الزوجات القاصرات اللاتي تعرضن للعنف المبني على النوع الاجتماعي٬ إذ صرحت 28 في المائة من الحالات الواردة على مراكز الاستماع التابعة لشبكة «أناروز» بأنهن تعرضن للعنف الجنسي٬ يليه العنف الاقتصادي (28 في المائة) ثم العنف الجسدي (21 في المائة). وأكد التقرير أن الزوجة القاصر تكون غالبا الحلقة الأضعف في دوامة عنف تنتهي بالطلاق٬ أو بمأساة تكون هي ضحيتها. سن الزواج مازال موضوع جدل سياسي واسع تحديد السن القانوني للزواج كان مثار جدل واسع تحت قبة البرلمان، حيث كان الفصل 19 من مدونة الأسرة المغربية المتبناة منذ 2004 يحظر زواج الفتيات اللائي تقل أعمارهن عن 18 سنة، إلا أن مادتين في الفصل نفسه تتيحان للقاضي فرصة إجازة استثناءات وعدم الالتزام بهذه القاعدة، إذ تنص المادة 20 على أن «لقاضي الأسرة المكلف بالزواج أن يأذن للفتاة أو الفتى بالزواج دون سن الأهلية، وهو 18 سنة، وذلك بإصداره مقررا يعلل فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك»، أما المادة 21 من القانون ذاته فتقول إن «زواج القاصر متوقف على موافقة نائبه الشرعي، الذي يوقع مع القاصر على طلب الإذن بالزواج، ويحضر معه إبرام العقد، وفي حال امتناعه أو عدم موافقته على الزواج يبت القاضي في الموضوع». هذان الفصلان دفعا فريق العدالة والتنمية في مجلس النواب إلى تقديم مقترح قانون لتعديل المادتين وتحديد سن الزواج الأدنى في 16 سنة. مقترح العدالة والتنمية اقترح إضافة تعديل على الفصلين مفاده أنه «لا تطبق مقتضيات الفقرة المذكورة آنفا إلا إذا كان الفتى أو الفتاة قد تجاوز سن السادسة عشرة، ووافق على الزواج بصفة صريحة، بدون أي ضغط أو تأثير». المقترح أثار حفيظة فريق التقدم الديمقراطي، بدعوى أنه لا يمكن الموافقة على زواج من تبلغ من العمر 16 سنة لأن هذا يتنافى مع مبادئ الحزب، وطالب الفريق لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بإحالة مقترح القانون على المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وذلك لأخذ رأيه في مدى احترام المقترح لحقوق الأطفال. الطلب جاء على لسان البرلمانية نزهة الصقلي التي وصفت المقترح بأنه ردة حقوقية غير مقبولة على مكتسبات حقوق الأطفال والنساء، مشددة على ضرورة رفع الأمر إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان باعتباره الهيئة الموكل إليها إبداء الرأي في المسائل الحقوقية. كرد على طلب الفريق التقدمي، طالب فريق العدالة والتنمية، في المقابل، بضرورة أخذ رأي المجلس العلمي الأعلى في هذا التعديل. وجدير بالذكر أن تعديل الفصلين المثيرين للجدل في مدونة الأسرة لم يتم حتى الآن. وكانت بسيمة الحقاوي، وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية، أكدت، في حوار سابق، أن الوقت قد حان لتعديل بعض مواد مدونة الأسرة من خلال التفكير الجماعي، وفتح نقاش عمومي واسع بين كل الفاعلين والمختصين في المجال، مشيرة إلى أن هذا التعديل سيؤدي إلى «إيجاد مداخل منصفة وفعالة، وبلورة توصيات عملية تحاول الإجابة عن الإشكالات المطروحة، وأيضا مواكبة التغيرات المجتمعية والتحول والتطور الذي يعرفه المغرب، انسجاما مع روح ومنطوق الدستور».