افتتاحية قوية تلك التي نشرت يوم أمس على صفحات جريدة «الواشنطن بوست»، إحدى أكبر الجرائد تأثيرا في القرار بأمريكا، حيث دعا محررها المؤسسة الملكية إلى إيجاد حل سياسي وليس قضائيا لملف الزميل علي أنوزلا القابع الآن في السجن، لكن هذا ليس موضوعي اليوم. ما آثار انتباهي في افتتاحية الصحيفة الأمريكية هو المقطع التالي: «عندما اندلعت الثورات العربية في تونس ومصر سنة 2011، تجاوب الملك محمد السادس في المغرب بسرعة مع مطالب الشارع وتبنى إصلاحات سياسية. تمت مراجعة الدستور المغربي بسرعة، وأجريت انتخابات برلمانية ديمقراطية سنة 2012. ولما فاز حزب إسلامي معتدل بالمرتبة الأولى، كلفه الملك بتشكيل الحكومة الجديدة. وبات المعجبون الغربيون بالمغرب ينظرون إليه كنموذج مهم وملهم لممالك عربية أخرى». انتهى الاقتباس. هذه هي الصورة التي شكلها الغرب وأمريكا عن حصيلة تفاعل المؤسسة الملكية مع الربيع العربي، وهذه هي «حكاية الخصوصية المغربية» التي اختارت طريقا ثالثا للتفاعل مع التغيير بعيدا عن «ارحل» كخيار أول، أو «أطلق النار» كخيار ثان. كان صوت العقل والحكمة هو الغالب يوم 20 فبراير 2011، ثم جاء خطاب 9 مارس، حيث خرج الجالس على العرش بكل شجاعة وأعلن خارطة طريق لإصلاح نظامنا السياسي، هي الأهم في الخمسين سنة الماضية. تنازل وريث العرش العلوي عن أجزاء مهمة من سلطته، ومنح المغاربة دستورا جديدا، صالحا، إذا وجد نخبة سياسية ناضجة وجريئة، لنقل المغرب إلى ما يشبه ملكيات أوربية، ثم توالت الإشارات والخطوات نحو انفتاح سياسي غير مسبوق. بعد الدستور الجديد جاءت انتخابات هي الأكثر شفافية في تاريخ المغرب، ثم التزم الملك بالدستور، وأعطى الحزب الفائز بالمرتبة الأولى حق تشكيل الحكومة ولو أنه حزب لم يكن أبدا يُنظر إليه بعين الرضا في دار المخزن. ليس هذا فحسب، صاحبت هذا المسلسل الدستوري والانتخابي لقطات صغيرة لكنها مهمة للغاية.. انسحب الهولدينغ الملكي من الصناعات الغذائية الحساسة والمرتبطة بقفة المغربي، وباع حصته المرجعية لمستثمرين عالميين (شركات الزيت والحليب والسكر والبسكويت...)، ورجع إلى الوراء للاستثمار غير المباشر في قطاعات استراتيجية أخرى حتى لا يختلط «البزنس» بالسلطة، ثم جاء إدخال فؤاد عالي الهمة إلى الديوان الملكي كمستشار أول، وهي إشارة إلى ابتعاد القصر نهائيا عن حزب الأصالة والمعاصرة، مادام التباس الخلط لم يزل رغم كل الشروحات. قرار إبعاد الهمة عن الجرار هو قرار ضمني بحل الحزب في نسخته الأولى، وهذا كان أحد مطالب 20 فبراير. طيلة سنتين كبرت الآمال في دخول البلاد إلى نادي الديمقراطيات الناشئة... فماذا حصل حتى وجدنا أنفسنا الآن في مناخ خريفي يبعث على القلق والتخوف من الرجوع إلى الوراء، وإغلاق القوس الذي فتح يوم 9 مارس؟ اعتقال أنوزلا وتوجيه تهمة ثقيلة إليه (الإشادة بالإرهاب وتقديم أدوات له ونشر خطابه) مؤشر على لائحة مخاوف كثيرة، بعضها ظاهر والكثير منها خفي، من الرجوع إلى الوراء. عودة القمع إلى الشوارع في حق المتظاهرين السلميين، واستهداف رؤوس 20 فبراير ومحاكمتهم بملفات الحق العام مؤشر آخر على أن المقاربة الأمنية بدأت تنتصر على المقاربة السياسية. والمشكل الأكبر في المغرب أن لا الحكومة، التي كان يعول عليها لتضخ جرعة كبيرة في الإصلاحات التي اقترحها الملك، تقوم بعملها، وتتدافع مع قوى الجمود والمحافظة حتى لا نرجع إلى الوراء، ولا المعارضة، المفروض فيها أن تذكر الحكومة بالتزاماتها الحقوقية والسياسية، تقوم بدورها. أصبح حزب الفيسبوك وجماعة صغيرة من المناضلين والناشطين الذين ينزلون إلى الشارع هم من يقفون في وجه حملة التراجعات هذه. بنكيران مشغول إلى أذنيه في حماية حزبه وما يراه مكاسب تاريخية تحققت على يديه، إذ استطاع إدخال الإسلاميين إلى القصر، وهكذا صارت الحكومة تتعايش مع عودة السلطوية بلا مشاكل. إننا نخسر أكبر مكسب تحقق في العهد الجديد، وإن عودة السلطوية إلى بلدان الربيع العربي ليست مؤشرا على إغلاق قوس الإصلاحات في المغرب، ولا عنوانا لنهاية مسار التغيير الذي بدأ في خارطة العرب، بالعكس، ما يقع من فتن وثورات وتراجعات في المحيط العربي يجب أن يقوي التجربة المغربية أكثر ويعضد خارطة طريق الإصلاحات. نحن بلاد كانت دائماً تتطلع إلى أوربا أكثر من تطلعها إلى الشرق العربي، وهذه بلاد جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوربا حتى إن كان لسان جزء من شعبها يتكلم العربية...