يواصل الكاتب والمترجم المغربي حميد لشهب، الذي يقيم منذ سنوات في النمسا، اهتماماته بالفلسفة الألمانية. غير أن نتاجه الأخير جاء مختلفا- نوعا ما- عن اهتماماته السابقة، حيث إن آخر ما نقل إلى العربية لا يتعلق بالفكر والفلسفة، وإنما بالرسائل الغرامية التي تبادلها الفيلسوفان مارتن هيدغر وهانا أرندت، خلال فترة طويلة، هي نصف قرن من الزمن، تمتد بين سنتي 1925 و1975، أي تاريخ وفاة الفيلسوفة الألمانية. يشبه المترجم حميد لشهب هذا الكتاب بالطريق السيار الذي يدور حول مدينة كبيرة، لها مداخل عدة آهلة بالأفكار والعواطف. إذ يرى أن تخصصات فكرية وإبداعية كثيرة حاولت أن تأخذ المخرج الذي يلائمها، لكنه يشير إلى أن الفلسفة ظلت غريبة نوعا ما عنها. ويعتبر أن الكثير من الفلاسفة لم يسعوا إلى النظر في الحب باعتباره مطلبا حياتيا ووجوديا، بل إن من خاضوا في شؤونه، فإنهم فعلوا ذلك بحذر كبير، حتى وإن كان بعضهم قد عاش قصصا حب كادت تذهب بعقولهم. يعود حميد لشهب، بحسب ما يكشفه في تقديم الكتاب، إلى بداية مرحلة الشباب عند الكاتبة الفيلسوفة آنا أرندت. إذ يقول إن ما دفع بها للذهاب إلى كونيكسبريغ في خريف 1924 هو عطشها الفلسفي والإشاعات التي كانت رائجة حول «إمكانية تعلم التفكير» في جامعة هذه المدينة على يد فيلسوف شاب. ويشير إلى أنها لم تكن تعرف في ذلك الوقت أن الحب والفلسفة سيجمعها بأحد أبرز فلاسفة القرن العشرين، وهو مارتن هيدغر، إلى أن يفرقهما الموت، على الرغم من سنوات النازية التي أبعدتهما عن بعضهما البعض فكريا وفيزيقيا. وفي هذا الصدد، يُطرح سؤال جوهري- يقول لشهب- بحجم العلاقة التي جمعتهما: ما هي القوة الخارقة التي سمحت لهما بإعادة ربط العلاقة، وهي الصهيونية الملتزمة، مع مفكر كان يؤمن بأن دور النازية في التربية من شأنه أن يحقق إنسانا جديدا؟ أكان هو الحب؟ الفكر؟ الفلسفة؟ أم شيء أعمق وأثقل من هذا؟ وما عسى أن يكون هذا الشيء؟ من بين ما جمعهما فكريا هو وعي الفيلسوفين الألمانيين بضرورة القطع مع التراث، كل بطريقته: أرندت بدفاعها عن فكرة ضرورة وصول أو نزول الفكر إلى العالم والاهتمام بالإنسان كإنسان في ضعفه وتجاربه ومحنه، بمعنى فلسفة سياسة جديدة. بينما اختار هيدغر التأمل الفلسفي العميق، في اجتهاد منقطع النظير من أجل إنقاذ الفلسفة من براثن تقليد ميتافيزيقي، أضر بها أكثر مما خدمها. هنا، يكشف الكتاب أن وجها آخر في علاقة أرندت وهيدغر ستظهر بعد الستينيات من القرن الماضي. إذ أصبحت المنسقة لترجمات كتبه إلى الإنجليزية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، بل ممثلة غير رسمية له في كل هذه الأمور، وكذا الحبيبة المقدمة للنصيحة في أمور بيع مخطوطاته، والمتلهفة للقائه كل مرة زارت فيها أوروبا والمناقشة لأفكاره وأطروحاته. أما هيدغر، فيظهر وكأنه استفاق من سبات عميق، حيث بدأ يهتم، كما يقول المترجم، بكتابات أرندت وبرامج عطلها وصحتها وينصحها بالعمل في هدوء وينتظر كل مرة رجوعها من أمريكا ليشربا نخب شكر على رجوعها سالمة إليه. وأخيرا، يرى لشهب أن ما قد يهم الفيلسوف في اهتمامه بهذه الرسائل لن يكون شيئا آخر غير «مفهوم الحب» نفسه في بعده الفلسفي المحض. باستثناء رسالة أطروحتها، لم يخصص لا هيدغر ولا أرندت أية دراسة قائمة بذاتها للحب كنشاط فلسفي. لا يتعلق الأمر، في رأيه، بنسق فلسفي قائم بذاته في أعمال الاثنين، بل بما يمكن للمرء أن يستشفه على ضوء هذه الرسائل ومن خلال الشذرات الكثيرة فيما نشراه في كتابات أخرى. إذ يقول إن الحب ليس فقط دافعا غريزيا، إيروتيكيا عندهما، لكن له تأثير بنيوي في تفكيرهما.