السياسة هي فن التفاوض لحل المشاكل، وتخفيف التوتر، والحوار مع الخصوم قبل الحلفاء، وهذا ما لم تنجح فيه الحكومة والنقابات على السواء، واختار الطرفان الذهاب إلى المواجهة، في حقل ملغوم وحساس هو الحقل الاجتماعي، واستعمال أقوى سلاح في المعركة، وهو الإضراب العام الذي يحتفظ المغاربة بذكريات سيئة عنه في الستينات والثمانينات والتسعينات… ماذا جرى حتى وصلت النقابات الأربع والحكومة إلى الباب المسدود حول مشروع قانون إصلاح صناديق التقاعد؟ الذي جرى أن النقابات نوعان، نقابات تابعة لأحزاب المعارضة: الاتحاد العام والفيدرالية الديمقراطية للشغل (مع التحفظات الواجبة في التمييز بين جناحيها)، وهذه لا يهمها تفاوض ولا حلول وسطى.. هذه نقابات تسير بقرار سياسي من زعماء الأحزاب التابعة لها، وقيادات هذه الأحزاب ترى أن المعركة مع الحكومة ستكون خاسرة سياسيا، لهذا من الأفضل تحريك الأذرع النقابية لتقوم بمهمة تسخين الجبهة الاجتماعية لإرباك الحكومة، وخلق أكبر قدر من المتاعب لها. النوع الثاني من النقابات (الاتحاد المغربي للشغل UMT والكونفدرالية الديمقراطية للشغل CDT) رفض منذ ثلاث سنوات تسييس العمل النقابي، وحاول أن يبتعد قدر الإمكان عن النقابات التابعة للأحزاب المعارضة، مفضلا الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والبحث عن حلول وسطى للملف النقابي، لكن مشكلة هذا النوع من النقابات أن المتطرفين في قواعده بدؤوا يزايدون على القيادة النقابية، التي تعرف أن «البلقنة النقابية» الموجودة في المغرب حولت الساحة الاجتماعية إلى بورصة للمزايدات، وأن خوف كل نقابة على قواعدها وحصونها يضطرها إلى الظهور بمظهر النقابة القوية التي تدافع عن الجماهير الشعبية بصلابة وقوة لا مراء فيها. هذا المناخ الاجتماعي، وهذه الثقافة الصدامية الموجودة في النقابات، دفعا الاتحاد المغربي للشغل إلى الانضمام إلى جبهة الرفض النقابي، وركوب موجة الإضراب العام، خاصة أن بنكيران وحكومته لم يتحركا في الوقت المناسب لاقتراح حلول وسطى لبعض الإجراءات المؤلمة في مشروع إصلاح التقاعد. المشكل الثاني لدى النقابات أنها لا تطرح بديلا معقولا يمكن التفاوض حوله مع الحكومة بخصوص إصلاح التقاعد، الذي يعرفون أنه ينهار كل يوم، وأن الإصلاح فيه مثل الدواء مر لكنه ضروري لإنقاذ المريض. النقابات تعرف ما الذي لا تريده، لكنها لا تفصح عما تريده، ليس لأنها عاجزة عن اقتراح بدائل لينة لإصلاح التقاعد، ولكن لأن المزايدات بين النقابات تمنعها من ذلك، فكل نقابة ستجلس مع الحكومة لتلطيف الإجراءات القاسية حول رفع سن التقاعد، أو حول تخفيض قيمة المعاشات ستُنعت بأنها نقابة «باعت الماتش»، أو اختارت الولاء للحكومة على الولاء للطبقات المسحوقة… بنكيران قادم من ثقافة سياسية وتجربة حزبية لا تعرف خصوصية التعامل مع النقابات في المغرب، ولا تعرف كيفية قراءة المزاج النقابي في المملكة (إدريس جطو ولأنه كان رجل أعمال يدير معامل وشركات، واحتك بالنقابات في الميدان، قبل أن يجلس معها في مقر الوزارة الأولى، وهو الوزير الأول الوحيد الذي عرف كيف يتفاوض مع النقابات، وأن يصل معها إلى توافقات مكنته من ربح سنوات من السلم الاجتماعي، حتى وإن كان سبيله إلى ذلك هو شراء هذا السلم الاجتماعي). عندما يسمع بنكيران زعيما نقابيا يقول في الإعلام إن الحرب هي الحل الوحيد مع الحكومة يكفهر وجهه، ويضيق صدره، ولا يعود يسمع لأحد يدعوه إلى التفاوض مع النقابات. عندما يقرأ بنكيران أن زعيما نقابيا يقول في التجمعات الانتخابية إنه يريد زيادة في الأجور تصل إلى 30 في المائة يصاب رئيس الحكومة بالجنون، ويقول: «كيف يمكنني أن أداوي البلاد بالتي كانت هي الداء»، هو لا ينتبه إلى أن النقابات وظيفتها أن تزايد على الحكومة، وأن ترفع سقف المطالب إلى حدود خيالية، وهذا ليس معناه أنها ستأخذ كل ما تطلبه… المشكلة الآن أن الطرفين، الحكومة والنقابات، وضعا نفسيهما في مواجهة مفتوحة، لن يكون فيها إلا خاسر ورابح. إذا نجح الإضراب في شل الحركة الاقتصادية في المغرب، فهذا معناه أن النقابات ستربح المعركة، وستفرض على الحكومة حلا ترقيعيا للتقاعد لن يحل المشكلة بل سيعقدها في السنوات المقبلة، وإذا لم ينجح الإضراب العام في وقف الحركة الاقتصادية في البلد فإن بنكيران سيصبح أقوى أمام النقابات، وسيذهب لوحده إلى البرلمان، ويمرر القانون الذي يريد دون أن يلتفت إلى أحد، لأن الشارع الذي لم يتبع النقابات، يوافق، ولو ضمنيا، على خطة الحكومة لإصلاح التقاعد. المشكل أنه في الحالتين (فشل الإضراب أو نجح) العمال والموظفون، وعددهم أكثر من 11 مليونا، هم من سيخسرون. إذا ربحت النقابات سيخسر الإجراء والموظفون فرصة لإصلاح صناديق التقاعد المهددة بالانهيار، وإذا فازت الحكومة وفشل الإضراب، فإن العمال والموظفين سيخسرون خطة لينة ورحيمة للإصلاح المتدرج لصناديق التقاعد.. خطة متفاوض عليها ومتوافق حولها بين الحكومة، التي تغلب الاعتبارات المالية الصرفة، والنقابات التي تغلب الاعتبارات الاجتماعية الحيوية…