في ثاني رواية تصدر له خلال السنة الجارية، يغلف الكاتب والأديب حسن أوريد نصّه الأخير «الأجمة» برسائل سياسية قوية ليست موجهة إلى النظام المغربي وحده، بل إلى مختلف الأنظمة العربية، التي يعتبرها نسخة من الأنظمة العشائرية والقبلية القديمة. في هذا الحوار، نتوقف معه عند أهم الرسائل السياسية الواردة في الرواية، وموقفه من التقنوقراط. { كتبت رواية «الأجمة» سنة 1994، حسب ما هو مدون في آخرها. لها طابع سياسي، حيث تحمل في طياتها الكثير من الرسائل. هل يترجم تأخر صدورها حتى اليوم تخوفا من الفاعل السياسي آنذاك، أم إنها لم تكتسِ راهنيتها حتى اليوم؟ أعتقد أن الرواية كانت راهنية إبان كتابتها، والدليل أنه في الفترة التي كتبتها فيها كان أوار الحرب الأهلية في الجزائر محتدما، وهو حاضر بقوة في الجزء الثاني من الرواية. مسألة النشر ليست مرتبطة براهنية العمل بقدر ما هي مرتبطة بالظروف المتعلقة بكاتبها. أولا، كنت، عندما كتبتها، أشتغل دبلوماسيا، ولم أكن حرا على كل حال. كان لدي متسع من الوقت للقراءة والكتابة، وكانت مناسبة لأعيد قراءة «ضيعة الحيوانات» لجورج أورويل. قرأتها عدة مرات. وكانت أمنيتي أن أكتب عملا على منوال رواية «ضيعة الحيوانات». حاولت، من الناحية التقنية، أن أوفق بين عمل «أورويل» وبنية «كليلة ودمنة». الاستشهاد بابن المقفع في ما يخص السلطان (le pouvoir)، في مستهل العمل، يحيل إلى هذا الاقتباس من كليلة ودمنة، كما هو الأمر في ما يخص استعمال كلمة «الأجَمَة» الذي يتكرر في «كليلة ودمنة»، وهو هنا يفيد عالم السياسة بصفة عامة. التعبير الصائب هو، ربما، «الغاب»، ولكني اخترت اسما قديما هو الأجَمَة. كتبت العمل، إذن، وأنا إذاك بواشنطن، واطلع عليه بعض الأصدقاء في سنة 1996 عندما دخلت المغرب. ومن الأشخاص الذين اطلعوا عليه آنذاك الناشط الأمازيغي منير كجي، وكذا أحمد الدغرني. لم أكن معروفا ككاتب، لذلك لم يكن عمليا أن أبدأ مشواري الأدبي بإصدار رواية «الأجمة». كنت كتبت قبلها رواية «الحديث والشجن»، فارتأيت طبعا أن أبدأ بهذه الأخيرة. وفي سنة 1999، أصبحت لي مشاغل أخرى. بقي العمل وسط أكياس. منذ سنة 2009، لم تعد لي مسؤولية في الدولة، أخذت أبعث هذه المرحلة من حياتي التي كنت قدّرت لفترة أن أقبرها. نشرت ديوان «فيروز المحيط»، رقنت رواية «الأجمة». تصالحت مع القلم، بل مع القراءة. كتبت «مرآة الغرب المنكسرة.» ولكني لم أجرؤ على إخراج «الأجمة». والذي بعث الكتاب من جديد هو تداعيات ما سمي بالربيع العربي، وبالأخص ما شهدته مصر من حركة تمرد، ثم تدخل عسكري، وهو ما ذكّر بالحرب الأهلية الجزائرية التي أفردت لها حيزا كبيرا في روايتي. ما عرفته مصر دفعني إلى أن أخرج عملي من الرف. طبعا، أجريت تنقيحات بسيطة من حيث اللغة، أو بعض الإضافات البسيطة، لكني لم أمسَّ ببنية العمل ولا متنه. بنية العمل هي تلك التي كُتبت سنة 1994. وأذكر أن ذلك اليوم صادف اليوم الذي يحتفل فيه الأمريكيون بعيد الشكر (thanksgiving)، حيث إنه عندما انتهيت من هذا العمل، كنت فرحا، كما كنت ضيفا على أمريكيين، إذ تقتضي العادة تهييء ديك رومي محشو. كنت مبتهجا أثناء العشاء. عشرون سنة بعد ذلك أُقْدم على إخراج العمل. تأخير لا يمكن أن يفسر إلا بكون العمل مستفزا. { لا تقتصر الرواية على السياسي المغربي فقط، بل تقدم صورة شاملة لنظام غارق في الاستبداد والتسلط على حياة الناس، والهيمنة على مصادر الثروات. ألم يكن من الممكن أن تشق الرواية طريقها إلى القارئ دون مخاوف من رد فعل نظام الحسن الثاني؟ تحدثنا عن «جورج أورويل». إنه من الكتّاب الذين كان لهم الفضل والسبق في عدم الانسياق وراء بريق الشيوعية. ويعتبر كتابه «ضيعة الحيوانات» من الكتب القوية التي فضحت الزيف الذي يمكن أن تنطوي عليه هذه الأنظمة رغم ادعائها العدل، بالإضافة إلى رواية «1984». لقد استوحيت فكرة أورويل لكن كان ينبغي أن أطبقها على واقع آخر. وهذا الواقع يمكن أن يقسم إلى ثلاث إحالات أساسية؛ الإحالة الأولى مرتبطة بميراث الحضارة الإسلامية، أي بداية انتقال السلطة من الخلافة الراشدة إلى معاوية. وهناك إشارات واضحة في هذا الشأن، على اعتبار أن هناك بداية مسار جديد يصبح فيه شخص ما متحكما في كل شيء. فالملك/السبع (إزْم) يشير إلى هذه البنية التي ابتدأت مع معاوية. والإحالة الثانية تحيل إلى تاريخ المغرب، خاصة بناء المخزن، وبالأخص الفترة الممتدة إلى غاية الحماية. والإحالة الثالثة تمس، أساسا، الأنظمة العربية الثورية، سواء الجزائر أو مصر أو ليبيا، الخ. لذلك، لا يمكن أن يقتصر تأويل الرواية على قراءة تاريخ المغرب، ولا قراءة تاريخ الأنظمة، ولكن على أساس أن هناك رابطا بين هذه الأنظمة. بتعبير آخر، لكي أوظف مصطلح المرحوم هشام شرابي، هناك استمرارية لما كان يسميه ب«الأبوية» و«الأبوية الجديدة»، (New patriarchy)، لأنه كان يعتبر الأنظمة العربية الثورية، في نهاية المطاف، استنساخا بشكل آخر للأنظمة العشائرية أو الأبوية، التي تستمد شرعيتها من الحفاظ على التقاليد. { هل يمكن أن نقول إن هذه الأنظمة التي استقت مشروعيتها من التاريخ -تاريخ معاوية كما ذكرتَ- ستندثر مع ما شهده العالم العربي من أحداث الربيع؟ أليس هذا ما تفيده إجمالا روايتك، وكذا رمزية تعبير «أجمة الأحرار»؟ هذا موضوع آخر. لم يكن ممكنا أن أتنبأ بالتطورات التي يمكن أن تقع في العالم العربي. { لكن مفهوم الثورة حاضر في آخر الرواية… على كل حال، هناك تمزق للجسم في الصراع الدائر بين السباع والذئاب، والذي انضاف إليه الكباش. هذا الجسم بات ممزقا بين أطياف. ورغم ذلك، بقي أمل، هذا الذي كان يحمله الحمام، الذي يحيل على المثقف، على اعتبار أنه يرتفع عن الواقع ويطير بجناحيه. وهو الذي حمل، في ظروف النضال من أجل الاستقلال، قيم الحرية والمساواة. فهذا الحمام، ورغم التجربة المريرة التي مرت بها الأجمة، بقي دائما محافظا على الأمل. لم يكن من الممكن أن أستشف ما يمكن أن يحدث. ولكن من دون شك، عندما نقف عند تجليات هذه المراحل الثلاث، نرى أن هناك دينامية ناجمة عن الاستفراد بالرأي والثروة، ومآلاتها المنطقية، أي التمرد. مرة يقوده الذئاب، وتارة السباع، والجديد، هو أن الكباش قادت التمرد وآلت إليها أمور الأجمة. { ومع هذا، فالثورة لم تغب عن ذهنك، خاصة أن الرواية تصف حالات متتالية من التمرد والعصيان ضد السلطة المركزية… طبعا، أنا أحيل على التاريخ. فأي شخص يقرأ الرواية، وله إلمام بالتاريخ الإسلامي أو تاريخ المغرب، سوف يقيم ارتباطات أو علاقات مع شخصياتها وأحداثها. فالقارئ يدرك، مثلا، أن شخصية «أوشن» تحيل على بوحمارة، وأن التحرير يحيل على حرب التحرير الجزائرية، وتأميم المطحنة على تأميم قناة السويس… لا أريد أن أتوسع، لأنه ليس المطلوب من الكاتب أن يفصح عن كل شيء. لكن تمرد الكباش يحيل على ما شهدته الجزائر بعد إيقاف مسلسل الانتخابات. أنا لم أفعل سوى أن استقرأت التاريخ ووظفته أدبيا، مع شحنة أمل. هذا طبعا من مسؤولية الكاتب، الذي يمكن أن يظل، كما يفعل فلوبير، جامدا وراء الأحداث، ولكن يمكن أن يكون حاملا للأمل كما مع باريس.Barrès أعتقد أن من مسؤولية المثقف أن يكون حاملا لمشعل الأمل، وبالأخص في ظروف الغبش. { اللافت للنظر أيضا أن بعض حيوانات «الأجمة» تشبه، إلى حد كبير، «تماسيح» بنكيران و«عفاريته»… (يضحك) لم أتحدث عن التماسيح والعفاريت، ولم يكن لي أن أتحدث عن التماسيح والعفاريت… راودتني فكرة إعادة كتابة الرواية انطلاقا من الواقع الجديد والمستجدات. في الحقيقة، أخفقت واعتبرت أنه يستحسن أن أُبقي على ما كتبت في تلك الفترة، وأنه إن كان من الضروري أن أكتب شيئا آخر، فينبغي أن يكون جديدا، لا علاقة له بكتاباتي السابقة. طبعا، هناك إحالة على البنية التقنوقراطية في الرواية، من خلال توظيف البغال أساسا. لم أستحضر التماسيح، ولا العفاريت، ولا الضباع… { المقصود من السؤال الإحالة على فساد بعض الإداريين… طبعا، عندما ينتفض كبش، أظنه أكانبو، (وأكانبو هو الكبش الذي كُسر قرنه، وكلمة كانبو بالدارجة أصلها أمازيغي) فيخطب أمام الحيوانات آكلة العشب، ويفضح حياة الأشبال التي لا تمُتُّ بصلة إلى حياة الحيوانات، وإلى ما تزعمه السباع، فهذا لا يحيل فقط على الاستفراد بالسلطة، ولكن على الاستفراد بخيرات الأجمة. فحينما ينتفض الكباش، فسيطالبون بالمساواة في توزيع ثروات الأجمة، والتنديد بالحمير «البيروقراط» والبغال «التقنقراط»، والسباع «الأوليغارشية العسكرية». { هل تروم من توظيفك الرمزي المكثف للبغال، في إحالة واضحة إلى التقنوقراط، انتقاد استخدام هذه الفئة السياسية غير المتحزبة في المغرب؟ طبعا، هناك شيء عرفَتْه مجتمعاتنا، بالأخص مع سقوط جدار برلين والإيديولوجيا النيوليبرالية، هو هيمنة التقنوقراط وانتقالهم من دور المشورة إلى الفعل، حيث أصبح التقنوقراطي فاعلا سياسيا، بل الأكثر من ذلك، أصبح صائغا للقيم .faiseur de normes وهو الأمر الذي اعتبرته في الكتابات البعدية انتحالا للصفة. للتقنوقراطي أن يظل مكانه. له خبرة متأتية من تكوين وتأهيل وتجربة، إذ لا يمكن تصور أي بنية حديثة بدون تقنوقراط، لكن شريطة أن يظل ضمن اختصاصاته، وألا يزاحم السياسي، لأن السياسي مسؤول أمام الجماهير، وألا يدعي التقنقراطي أنه يصوغ المعنى، وهي وظيفة المثقف. الذي حصل هو أن التقنوقراطي بسط نفوذه على مجال السياسي والمثقف. قرأت قبل أسابيع في جريدتكم مقالا لمثقف، هو السي محمد الأشعري، الذي أحال على نبوءات التقنوقراطي المزعومة، والتي كذبتها الأحداث، والتي إن أفادت شيئا، فقد أفادت أصحابها، كما في حمى الخنازير، وما تمخض عنها من هواجس وصفقات، وفي آخر المطاف تبين أنها فرقعة إعلامية. لكي أوضح الأمور، لا يمكن أن أتصور مجتمعا حديثا -أو دولة عصرية على الأصح- بدون تقنوقراط. أحيل هنا إلى ماكس فيبر، الذي يقول إن البيروقراطي جد التقنقراطي، ينتمي إلى التنظيمات العصرية. لكن الخطورة الوحيدة هي عندما يتجاوز التقنوقراطي اختصاصاته، وينتحل صفة السياسي والمثقف. لكل دوره. كلمة تقنقراطي تفيد، من حيث دلالتها اللغوية، حُكم الفنيين. Kratia باليونانية تعني حكم. { هل ترى أن ما يعانيه المغرب خلال السنوات الأخيرة من اختلالات، خاصة في مجال توزيع الثروة، هو نتيجة انتقال التقنوقراطي من مجال خبرته إلى الفعل السياسي؟ أعتقد أن هذا تحصيل حاصل. كان هناك سياق دولي مُوات بالنسبة إلى التقنوقراطيين الذين استنسخوا التقنيات، وحاولوا أن يوظفوا متنا (vulgate)، بما فيها ما كان يسمى ب«توافق واشنطن» (تحرير التجارة، تفكيك كل الأدوات التي من شأنها أن تحمي الاقتصاد، الخوصصة…). الآن، تبين أن ما كان يسمى «توافق واشنطن» يشكل خطرا على الاقتصاديات الوطنية. لم نُقيّم عملية الخوصصة بعدُ. فمن المُجدي التخلي عن مؤسسات مُكلِّفة وغير منتجة. ولكن هذا ليس معناه التخلي عنها بدرهم رمزي، أو بأقل من قيمتها الحقيقية، أو في ظروف غير شفافة. وهذه المسألة لا تهم المغرب فقط. فبعد سقوط حائط برلين أفرز خبراء في الخوصصة مختصين في شراء المؤسسات المفلسة، خاصة في أوربا الشرقية، إذ استطاعوا أن يوظفوا احتجاجات اجتماعية، بل وأن يثيروها ويموّلوها. قرأنا في الصحافة ما آل إليه وضع شركة كوماناف وتوظيف الاحتجاجات الاجتماعية لبيع أسطول عمومي. الآن نرى المشكل القائم بالنسبة إلى المغاربة في ليبيا. ليست لدينا إمكانية ترحيلهم من هناك. ليست لدينا سفينة عمومية. بيعت باخرة «مراكش» مع كل الحمولة التاريخية التي تحملها ضمن أسطول «كوماناف»، قبل أن تتم استعادتها وشراؤها فيما بعد. لم نقيّم هذه الفترة، التي شهدت زخما مفاهيميا على المستوى العالمي أتاح للتقنوقراطي أن يصبح فاعلا. فالتقنوقراطي لم يكن يزيد، في نهاية المطاف، على استنساخ التقنيات. لم يقم بقراءة الواقع أو تشخيصه أو تحليله. الآن نتباكى على قضية التعليم لأننا استنسخنا تصورات وتقنيات أتت من الخارج. دعني أكرر حكمة كان يقولها لي أستاذي، وكان من كبار مفتشي وزارة التربية الوطنية، وهي مقولة أمريكية بالمناسبة: «إذا أردت أن تدرس اللاتينية لجون، فليس من الضروري أن تعرف اللاتينية، ولكن يتعين عليك أن تعرف جون». علينا أن نحسن قراءة واقعنا، وهذه مهمة المثقف. والمثقف كان مُغيّبا. إذ من الافتراءات الكبرى أن يقال إنه كان غائبا، بل كان مغيبا. { كيف تنظر إلى من رددوا هذه المزاعم في الآونة الأخيرة، في وقت اشتد فيه الخناق على السياسي؟ من العبث، بل من الحيف، ألا نعترف بالجهود التي قام بها المجتمع المدني في المغرب، سواء في الصحافة الحرة، أو الجمعيات المدنية من أجل إشاعة الوعي، رغم أنهم أدوا ثمنا غاليا. ولذلك، لا يمكن أن نبخس دور المثقفين. طبعا، المشكل قد ينصرف إلى ما نعنيه ب«المثقف». وغالبا ما يعتبر هؤلاء الذين يتباكون عن غياب المثقف أنه شخص حامل لمعارف لا غير، في حين أن المثقف هو بالأساس شخص ذو حس نقدي، يهمه ما يعتمل في مجتمعه. هذه العينة كانت حاضرة. أنت أشرت في مقال من مقالاتك الأخيرة إلى نداء الحوار الوطني حول الثروة. وما يميز هذه الورقة هو حضور المثقفين بشكل قوي. لا يمكن القول إن المثقف انعزل في برج عاجي. هناك حضور قوي يسجله مثقفون مغاربة لهم وزن عالمي، معروفون أكاديميا بانخراطهم في قضايا مجتمعهم. طبعا، المثقف، بالنسبة إلى البعض، شخص «ظريّفْ، ما ينوضش الدجاجة على بيضها».. أنت تعرف كتاب إدوارد سعيد «المثقف والسلطة» -وهو عبارة عن محاضرات ألقاها بضيافة من BBC- وهو يركز على شيء أساسي، وهو أن ما يميز المثقف هو حسه النقدي، وأن علاقته بالسلطة ليست ودية. { لنعد إلى الرواية. من بين القضايا الأساسية التي تطرحها العلاقة مع الآخر، أي العلاقة السياسية، حيث تعكس نقدا شديد اللهجة لتدبير هذه العلاقة… ماذا تقصد بالآخر؟ { الآخر الغربي… أقصد همينته السياسية والاقتصادية. من دون شك هناك فاعل مستتر، هو الذي سميته بالحيوان الذي يمشي على قدمين، والذي هيأ الظروف الموضوعية لكي تسقط «أجمة الأحرار» في براثن المستعمر، من خلال اختلاق مشاكل، كالمديونية، وتوظيف «الذئاب». وفي طور ثان، أي بعد حرب التحرير، سيصبح فاعلا كذلك. طبعا، هناك إشارات إلى ما يسمى ب«التقويم الهيكلي»، كما أن هناك إشارة إلى الوسائط وتأثيرها على الذئاب، مثلا. الغرب في الرواية فاعل مستتر. والأجمة تسمى أجمة الأحرار، غايتها في نهاية المطاف أن تعود سيرتها الأولى، فكيف تصبح حرة إذا لم تتخلص من تأثير الآخر وهيمنته، الذي هو الغرب؟ { هل نفهم من هذا أن الظروف التي أدت إلى استعمار المغرب هي ذاتها الموجودة اليوم، إذا ما نظرنا إلى ثقل المديونية وسطوة الغرب في الداخل؟ لا يمكن أن أجري قراءة للوضع الحالي. لكن الرواية تحترم التاريخ الذي شهده المغرب ودول أخرى في المنطقة حتى غداة سقوط حائط برلين. ربما الرسالة القوية التي تحملها الرواية هي وحدة أطياف الأجمة رغم اختلاف مشاربهم. لا أفشي سرا إذا قلت إني أضفت كلمة بسيطة في المقطع الأخير، حيث كانت الجملة الأولى: «وتلتئم جراح الأجمة، ويعم التآخي بنيها الأحرار»، لتصبح الجملة على النحو التالي: «وتلتئم جراح الأجمة، ويعم التآخي كافة بنيها الأحرار». طبعا، أستحضر واقع المغرب والجزائر، لكي أكون واضحا. هذه الكلمة «كافة» لم تكن في النص الأصلي، وإضافتها تروم طبعا أن تتغلب الوشائج القوية تاريخيا وحضاريا وثقافيا على كل أسباب الفرقة. هذا لا يعني رفض الاختلاف، أيا كان هذا الاختلاف. { تستحضر أيضا، بطريقة غير مباشرة، ما كتبه المفكران الجزائري محمد أركون والمغربي عبد الله العروي عن الفضاء التاريخي المغاربي والمتوسطي أيضا. إلى أي حد تستطيع رواية «الأجمة» أن تنبه السياسيين، سواء في المغرب أو الجزائر، إلى أهمية الوحدة المغاربية؟ وحدة النسيج المغاربي قائمة في الرواية، لكن البعد المتوسطي غير قائم. لم أستحضره بتاتا، ولم يكن لدي وعي به عندما كتبت الرواية. هناك إحالة إلى المحطات المهيكلة في التجربة العربية الإسلامية من خلال التنافس الذي حصل على السلطة. ولكن العنصر الحاضر بقوة هو تجربة المغرب والجزائر. وحتى في ما يخص الأسماء، فأي قارئ للفصل الثاني منها، سيلاحظ أنه يحيل على الجزائر. لذلك، لا يمكن القول إنه يحيل على البعد المتوسطي. هذا البعد حاضر في «سيرة حمار». أكيد. وحتى أسماء الأشخاص والأماكن كلها أمازيغية، أي تحيل إلى الساكنة الأصلية لبلاد المغارب. «كليلة ودمنة» كتبت بلغة عربية متينة السبك، لكن أسماء الشخوص هندية (دبشليم، بيدبا، الخ). اللغة العربية هنا أثاث، ومكان الإقامة والأرضية أمازيغية، على غرار «كليلة ودمنة». فالواقع الذي تحيل عليه هو واقع الهند، الذي نُقل إلى الفارسية، ثم نقله ابن المقفع إلى العربية. اللغة هنا أداة، لا غير. { تكتسي الأمازيغية رمزية مكثفة في الرواية. وهو أمر ينطبق أيضا على «سيرة حمار». هل يحيل هذا التوظيف على الأصل الأمازيغي، أم هو نوع من الاستعارات الأدبية التي تغلف رسائل سياسية؟ التأويل الأول هو الأصح. أكرر ما قلته عن «كليلة ودمنة». فهي تحيل على واقع لا علاقة له بالجزيرة العربية، لكنها كتبت باللغة العربية، لما كانت تحيل على ما كان يسمى بآداب السلاطين، وهو أمر لم تعرفه الثقافة العربية في بداية نشأتها، أو ما توسع فيه ابن المقفع في «الأدب الكبير» و«رسالة الصحابة»، وما صاغه بشكل روائي انطلاقا من هذه الأدبيات. وحتى «أجمة الأحرار»، فهي تعني «إيمازيغن». هناك لعب بالكلمات، وهو إحالة على العمق الأمازيغي لشمال إفريقيا، واستحضار له من حيث الأسماء والطوبونوميا، بل للمسار. واستحضرت هذا كله بلغة أردتها تقليدية، عتيقة، قديمة، في مبناها، وفي أساليبها من قبيل: «زعموا». بنية اللغة جزء من العمل. فهذه العملية ليست سهلة. كيف نعبر عن واقع معاصر باستعمال لغة قديمة؟ لا أدري إن كنتُ وُفقت في الأمر. { هناك من سيقول إن توظيف الأمازيغية هو نوع من الموضة التي تساير النقاش السياسي، خاصة بعد تنصيص الدستور على ترسيمها لغة رسمية، إلى جانب العربية؟ كتبت الرواية سنة 1994. القول بهذا أمر متعسف… { مصادفة صدور الرواية مع نص الدستور قد تعطي هذا الانطباع. فضلا عن هذا، رواية «سيرة حمار» قد تحيل على هذا الانطباع أيضا. «قد» إذا دخلت على المضارع فهي تفيد التشكيك، وليس التحقيق كما يقول النحاة. كل شخص له الحرية في قراءة العمل. أنت أجريت معي حوارا حول «سيرة حمار»، وقلت لك إن الذي أوحى إلي بكتابة هذا العمل هو الانزياح الذي شهده ما سمي ب«الربيع العربي»، وهو نداء من أجل التذكير بخصوصية المغرب. للقراء أن ُيصدروا أحكامهم. العامل الحاسم في إخراج رواية «الأجمة» ليس هو ترسيم الأمازيغية، بل هو بالأساس ما حدث في مصر. لفترة ما، اعتبرت أن العمل أصبح متجاوزا، لكن المآل الذي شهدته الأحداث بعد تجربة مصر أظهر راهنيته. ثم إنه بعثٌ لمرحلة من حياتي، طمرتها، أو أرادت أن تطمرها الأراجيف والتخرصات.