لو لم يرحل عنا سالم يفوت، لما استطاعت كلية الآداب بالرباط أن تجمع ثلة من الثقفين والمفكرين، الذين صنعوا مجدها الفلسفي والأدبي. إذ شهد اللقاء التأبيني، الذي احتضنته الكلية، أول أمس، حضور أبرز الأسماء في سماء الثقافة المغربية، لتوديع أحد أبنائها الأوفياء استطاع الراحل سالم يفوت، رغم غيابه، أن يجمع كل أجيال الفلسفة التي تعاقبت على التتلمذ والتدريس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وذلك خلال حفل التأبين، الذي جرى أول أمس بمقر الكلية ذاتها. إذ حضر اللقاء من زملائه وأبناء جيله محمد سبيلا وعبدالسلام بنعبدالعالي وسعيد بنسعيد العلوي وكمال عبداللطيف ومحمد الدكالي ومحمد المصباحي، ومن طلبته محمد نورالدين أفاية، فضلا عن وجوه بارزة داخل الجامعة أمثال أحمد التوفيق ونجاة المريني ومحمد أديوان وآخرين. وقد اعتبر عبد الرحيم بنحادة، عميد الكلية أن هذا الحضور الكبير لكبار ممثلي الفلسفة والأدب بالكلية تعبير عن وفاء الجميع واعترافهم بالراحل سالم يفوت، وبعطاءاته الفكرية والفلسفية. فيما رأى فيه أحمد التوفيق، الذي توقف عن محطات مختلفة جمعته بالراحل، رجلا صادقا وعفويا ومثاليا، مشيرا إلى أن هذه الخصال تعود إلى أصوله الشعبية. كما اعتبر أنه بصم الساحة الثقافية المغربية والتاريخ المغربي ببصمة خاصة، حيث ذكر بنشاطه وطموحه وإيمانه بالعلم والمعرفة. واستحضر نورالدين أفاية، الذي تتلمذ على يد الراحل وأعد بحث دكتوراه تحت إشرافه، ملامح سالم يفوت المتعددة، مشيرا إلى أنه جسّد مثال المثقف الملتزم والمثابر. وفي سياق كلمته، اعتبر أفاية أستاذه يفوت صاحب حضور نوعي فيما تركه من أعمال آمنت بالتغيير الاجتماعي. كما توقف عن الصحبة التي جمعت بينهما، ليقول إن الرجل وسّع الأفق الفكري لشعبة الفلسفة، ورفع من القيم الأخلاقية، مشيرا إلى أنه رفض الوجود في زمن انطبع بالرياء والنفاق والكذب. ومن جهته، أشاد سعيد بنسعيد العلوي بخصال الراحل الأخلاقية، إنسانا، أستاذا ومثقفا. إذ أشار العلوي، الذي سرد جزءا من محطات الصحبة والزمالة مع الراحل، إلى أن يفوت أبلى بلاء حسنا في الفلسفة المغربية، إبداعا وكتابة وترجمة وإعدادا للمناهج، وصحافيا أيضا على اعتبار أنه كتب وترجم في جريدة «فلسطين»، التي أصدرها الوديع الآسفي في السبعينيات من القرن الماضي. ثم توقف عن صفات أربع تحلى بها الراحل خلال حياته: الحياء، الصدق، الجدية، والتفاني في خدمة الآخرين. وختم بذكر ملامح تشكل مشروعه الفكري، حيث اعتبر أن اهتماماته الفكرية فرضتها سنوات التدريس، وأثرت فيها الفلسفة المعاصرة بقوة، خاصة الفكر المادي الجدلي (الماركسي)، والدرس الابستيمولوجي (باشلار، فوكو، ألتوسير). أما محمد سبيلا فقد انطلق من الخصائص العامة، التي تميز بها جيل بأكمله، وكذا عناصره المشتركة ودينامياته ومقوماته، الخ. إذ اعتبر أن هذا الجيل يشترك في كونه ينتمي إلى أصول اجتماعية عادية أو متوسطة ذات جذور شعبية، وتشبعت بثقافة الحركة الوطنية، التي ورثها بشكل تلقائي وعفوي، ببعديها الوطني والقومي. في هذا السياق، قال سبيلا إن سالم يفوت عاش صدمة السجن في وجهها القمعي البشع، ووجهها الداخلي، بما ولدته من خيبة أمل داخلية جعلت المرحوم يبتعد عن السياسة والاختيارات الإيديولوجية. وذكر هو الآخر بقيم الراحل وأخلاقه العالية، مستحضرا التناغم والانسجام التام، الذي طبع حوالي عشرين سنة من العمل المشتركة داخل الجمعية الفلسفية المغربية، وخاصة في مجلة «مدارات فلسفية». واستعاد كمال عبداللطيف الشهادة التي ألقاها خلال تكريم الراحل العام الماضي، وتضمنها الكتاب/ الأعمال المهداة «انتصارا لقيم الفلسفة في الجامعة المغربية». إذ اعتبر أن الصدق والمحبة خصلتان جعلت من الراحل فيلسوفا حقيقيا، موضحا أنه كان يكتب بعمق فكري ودقة منهجية ومنطق فلسفي وحس ثقافي عال، سواء فيما يتعلق بالتراث الإسلامي (ابن حزم)، أو الفكر الفلسفي المعاصر (باشلار، فوكو، دولوز). كما قال إن يفوت ترجم الفكر الإنساني بترجمته «الكلمات والأشياء» و»حفريات المعرفة» ل»ميشيل فوكو»، وبنى صرحا فلسفيا مغربيا متميزا.