أعتقد أن بين كل كاتب روائي حقيقي والتيمات التي يشتغل عليها في أي نص من نصوصه، سواء كانت (واقعية، تاريخية فكرية اجتماعية أو سير ذاتية…) ،علاقة نفسية ووجدانية ومبدئية إيمانية متينة. الكاتب صاحب مشروع ورؤية ورسالة، وإن عدّد مواضيع كتاباته ومجالها، فهو لن يكتب إلا في المجال الذي يعنيه بقوة ويمتلك تفاصيل عوالمه الدقيقة ويعرف شخوصه حق المعرفة، خارجيا وجوانيا وله إلمام كبير ودقيق بخبايا موضوعه وأسراره. وهذا نلمسه لدى كل الكتاب الكبار، كدوستويفسكي، وغابرييل غارسيا ماركيز ونجيب محفوظ وغيرهم. والمتتبع لتجربة عبد القادر الشاوي الإبداعية منذ روايته الأولى "كان وأخواتها" (1986) إلى روايته الأخيرة "مربع الغرباء" 2023، مرورا بالعديد من النصوص السير ذاتية والروائية والتخييلية، ومنها "دليل العنفوان" و"باب تازة" و"الساحة الشرفية"و"دليل المدى"و"من قال أنا" و"بستان السيدة" و"التيهاء " و"مديح التعازي" إلخ…. لم يخرج عبد القادر الشاوي عن تيمتين أساسيتين تتشابك وتتعالق بهما باقي التيمات والمواضيع المطروقة في أعماله، هما: الذات والقضايا السياسية المرتبطة أساسا، بحماية حقوق الإنسان في شموليتها (السياسية ،المدنية ،الاقتصادية والاجتماعية ومناهضة جميع أشكال التعذيب…) فهو مُصر، بعناد وشجاعة وإقدام الأبطال المقاتلين الأحرار، أن يظل شاهرا قلمه طيلة عقود، كما يشهر هؤلاء المحاربون سيوفهم البتارة في وجه العدو، ليسجل للتاريخ شهادته المغموسة في محبرة الألم والمعاناة الشخصية والجماعية ضد انتهاكات حقوق الإنسان ونكاية في النسيان. وفي "مربع الغرباء "يواصل عبد القادر الشاوي تخييليا، النبش، من حيث الموضوع، في نفس التيمات ونفس المواجع القديمة، أحداث ووقائع مما جرى في سنوات الجمر والرصاص، لكنها في الآن نفسه، مستجدة ومختلفة من حيث استمرارها في الزمن والوجدان وكذلك من حيث تقاطعها مع ما يحدث في الحاضر والعهد الجديد. فما هي الأحداث والوقائع التي شيد عبد القادر الشاوي في "مربع الغرباء"، على أرضيتها وأعمدتها عمارته السردية الشاهقة بالوجع والغضب والمواقف والانتقادات الحادة؟ وكيف شيد خطابه وحبكته تخييليا، لطرح أفكاره ومواقفه ورؤاه، دون السقوط في كتابة ذاتية سجالية تقريرية ومباشرة، على الرغم من حضور الذات الكاتبة بقوة، وكذا الإكراهات التي تفرضها الطبيعة الحساسة للموضوع؟ أولا: الأحداث ربما لم يجد الشاوي موضوعا أفضل من أحداث الدارالبيضاء لسنة 1981 لكتابة روايته الجديدة. تلك الأحداث التي نزلت فيها دبابات الجيش إلى شوارع مدينة الدارالبيضاء في مواجهة الشعب، للقضاء على احتجاج مواطنين عزل، كل ذنبهم أنهم خرجوا للتنديد والاحتجاج على غلاء المعيشة وضنك الحياة وانسداد الآفاق وقلة الحيلة. مقطع قصير من الصفحة 123 يقول: "يومان حاران مشهودان داميان تواجه فيهما فريقان: عزل قتلوا. ومدججون بالسلاح الفتاك واللغة الشاتمة الشامتة، ضربوا". تلك الأحداث التي أسالت مدادا كثيرا وعرفت ب"شهداء كوميرا"، كما وصفها وقتها بشماتة وسخرية مقيتة إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق. يتساءل الكاتب في الصفحة 157: "وقائع الأحداث الدموية معروفة إلى حد ما، ولكن النسيان ربما بلاها وأتلف عناصرها أو بعضها. فكيف السبيل إلى إحيائها من زاوية الحق والعدل؟" قلت، ربما لم يجد عبد القادر الشاوي أفضل من هذه الأحداث لكتابة روايته الجديدة "مربع الغرباء"، أو بالأحرى اتخاذها تعلة لتعرية التحولات السياسية والحقوقية في المغرب. وبالخصوص، تحولات اليسار المغربي وتشظيه وانحرافاته. وكذا لتمرير مواقفه ورؤاه وتقديم شهادته للتاريخ. وهكذا سيعود بنا عبد القادر الشاوي أكثر من أربعين سنة إلى الوراء، لاسترجاع ما حدث والوقوف مباشرة على هول الكارثة. ليس فقط لأنها أحداث تستحق أن تكتب عنها للتاريخ شهادات متعددة، محاولة لفهم ما جرى وحتى لا تتكرر في المستقبل، ولكن أيضا، لأنها في سياق ما، وخصوصا مع مطلع العهد الجديد، كانت مجال اشتغال لطي صفحة الماضي، جمع بين السلطة والحقوقيين و السياسيين والمثقفين. أو ربما أيضا، لما تتيحه له كروائي من مكنات تخييلية غنية ومتعددة، لتوجيه مدفعيته النقدية الثقيلة بحرية أكبر، إلى حيث الخذلان والتواطؤ واللبس والتعتيم والبياض وإلى كل من يهمه الأمر. وكي يبحر بنا الكاتب في تفاصيل ما جرى سنة 1981 في المغرب، وفي الدارالبيضاء على وجه الخصوص، سيقدم لنا في القسم الأول عنصرين أساسين ومهمين في بناء الرواية وصياغة حبكتها، بحيث سيشكلان فضاء تلاقي واحتكاك شخوصها ومجال اهتمامهم وعملهم الأساس، وهما المجلس، والمقصود به، وإن كان الكاتب تحاشى ذكر ذلك، هو المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. ثم المقبرة، أو تلك الحفرة التي أمر وزير الداخلية الأسبق، من وزارته أو من فوق مروحيته، المسؤولين على الحفر، أن يوسعوها، عمقا وطولا وعرضا، لتلقى فيها جثامين ضحايا ذلك اليوم الأسود من يونيو 1981 بكفن ومن دونه، بعضها فوق بعض، كما تلقي، للأسف الشديد، شاحنة النظافة، بأكياس قمامة في مزبلة. "ما قامت به السلطة يعتبر عنفا رجعيا مقيتا…" صفحة175." الجثت كانت تصل تباعا، البعض مكفن والبعض الآخر في اللباس الذي قتل به وفيه."صفحة 241. وأيضا سيقدم لنا في نفس القسم، مداخل بورتريهات مختصرة عن الشخوص الأساسية في الرواية، أولائك الشخوص الذين سيلعبون أدوارا مهمة في كشف العديد من الأسرار والمعلومات، في متوالية سردية تتنامي فيها الحكاية وتتطور الأحداث وتتقافز الأزمنة برشاقة بين الماضي والحاضر وزمن الكتابة، لتكتمل الصورة وتتوضح الرؤية ويرتفع ممزوجا، منسوب التعاطف والوجع والغضب، في دم القارئ ووجدانه. وهم خمسة شخوص: 1_ داوود غير منتم لليسار، محايد سياسيا، درس في باريس وما كان يفكر بالعودة إلى المغرب لولا مرض والده، اشتغل مكلفا بالإعلام داخل المجلس. 2_ محسن الرياحي، مُناضل يساري نظيف، عائد إلى المغرب من منفاه بفرنسا، صاحب كبرياء، عيبه الوحيد أنه سريع الغضب، ينفر من الطباع الصغيرة التي ليس لها كيان إنساني، خصه الكاتب العام للمجلس. بوظيفة بأجر صغير، ليسد به رمقه ويواجه به عوزه و ظروفه المالية الصعبة، سيصاب بالسرطان ويموت في عزلة ويكون للأسف الشديد، كباقي المناضلين الشرفاء، نسيا منسيا. 3_ إبراهيم الكندي، أحد الشيوعيين من جماعة الثوار الشرعيين الذين يعيشون على حلم المستقبل الموهوم له حساب فيسبوكي، لا يكف عن إطلاق تدويناته الثورية النارية على صفحاته. صاحب سر مكان الحفرة أو تلك المقبرة الجماعية السرية. 4_ مارية، صحفية بجريدة "الشعب"، شجاعة وجريئة، في الثلاثين من عمرها ، نسوانية تنافح عن قيم المساواة وغيرها. 5_ أحمد النعمان، السارد، مناضل من وسط فقير، ذو تكوين قانوني سياسي على معرفة بمختلف القضايا السياسية والحقوقية ومستشارا مقربا من رئيس المجلس. لأسباب خاصة، مشار إليها داخل الرواية بالتفصيل، سيقدم أحمد استقالته من المجلس وسيتفرغ للبحث عن تلك المقبرة الجماعية لضحايا أحداث 1981 بالدارالبيضاء. وكما سيلاحظ القارئ المتأني، أن الكاتب، ومنذ القسم الأول، أراد أن يكون واضحا ويكشف لنا عن أوراقه ويقدم لنا بدون أي تحفظ ولا تشويق أو متعة متسلسلة في الحكي، موضوع روايته وشخوصها وزمنها والفضاءات التي ستدور فيها. لكن في هذا الكشف، كان الطعم الذي أخفى المصيدة، والقش الذي غطى حفرة الفخ. لم يتحايل الكاتب على القارئ بإركابه زورقا شراعيا على ضفة نهر وتركه يتهادى منتشيا على سطح الماء بالحكاية، تتلاعب به الرياح والتيارات العابرة نحو المصب، إلى أن يجد نفسه وسط البحر، يصارع لججه. بل دفعه بقوة من الخلف وسط المياه ، وتركه لمصيره يسبح لينجو أو يستسلم فيغرق. الأوراق التي كشف عنها الكاتب منذ البداية، توريط ذكي للقارئ في أن يتساءل، وفي مواصلة القراءة، إن هو هو رغب في الحصول عن الأجوبة. ما علاقة المجلس بالمقبرة؟ ماعلاقة هؤلاء الشخوص ببعضهم؟ وماعلاقتهم بالمجلس؟ وما علاقتهم بأحداث الدارالبيضاء وبالمقبرة؟ ولماذا أربعة رجال وامرأة واحدة فقط؟ ولماذا كلهم من مناضلي اليسار أو متعاطفين معه؟ ولماذا اختار الكاتب أن يجعل أحمد النعمان هو السارد الأوحد، عصب الرحى الذي تدور من حوله الأحداث وتتكشف به الأسرار، فاعلا ومصاحبا للشخوص، يحكي لنا ما جرى بضمير المتكلم تارة، ومتتبعا لها من الخلف يسرد لنا ما ظهر منها وما خفي بضمير الغائب تارة أخرى؟ ثم لماذا العودة أصلا،إلى النبش في هذه الأحداث الموجعة ونكئ الجراح ؟ لمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة، لابد من الوقوف ولو في عجالة على الكيفية التي بنى بها عبد القادر الشاوي خطابه في "مربع الغرباء" تخييليا. ثانيا: البناء والخطاب عندما ننتهي من قراءة رواية" مربع الغرباء"، يظهر لنا جليا بأن أحداث الدارالبيضاء كتيمة أساس في الرواية، لم تكن إلا مطية ليواصل الكاتب، بجميع ما كسبه من صفات وتجارب في الحياة (روائي،ناقد، مناضل، سفير، حقوقي، مثقف إلخ) تعريته لهول وفظاعة ما جرى في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وأيضا لإحيائها وإثارة المزيد من النقاش حولها. وأيضا لتوجيه سهام النقد الحادة إلى كل من يعنيه الأمر، من سلطة وسياسيين وحقوقيين ومثقفين ومتواطئين. والأهم تسجيل شهادة حول ما جرى، للتاريخ. ولتحقيق ذلك، اختار الكاتب، بناء معمار روايته وتأثيث فضاءاته، على الشكل الذي بدا له مناسبا لموضوعات الرواية ولائقا لبناء خطاب واضح وقوي و منسجم وقناعاته وأفكاره. بحيث قسم الرواية إلى ثلاثة أقسام غير متساوية من حيث الطول (القسم الأول حوالي 60 صفحة. القسم الثاني، حوالي 230صفحة. القسم الثالث أيضا، حوالي 60صفحة). واختار أيضا، كما في كتابة السيرة، أن يكون السرد في مجمله بضمير المتكلم، وبلغة متينة، واضحة، شفيفة ولماحة، كما لو كان أحمد النعمان، (السارد)في حديث مباشر إلى قرائه المفترضين، يجلس معهم حول طاولة يتقاسم معهم فنجان قهوة أو كأس شاي. إلا أنه لا يتخلى عن أناه، إلا حين يمنح الكلمة لأحد شخوصه، ليدلو بدلوه وليعبر عن وجهة نظره، وهذا نادر. أو عندما يتوارى كسارد عالم بكل شيء إلى الخلف، لوصف و تتبع مسار هذه الشخصية أو تلك. فترشيح الكاتب لأحمد النعمان، كأحد مناضلي اليسار وأحد المعتقلين السياسيين السابقين، ووضعه داخل المجلس، مستشارا مقربا من الرئيس، ثم إناطته بمهمة البحث عن المقبرة الجماعية المجهولة في الدارالبيضاء، بعد استقالته من المجلس. وكذا إحاطته بباقي الشخوص الرئيسة الأخرى بما لها من أدوار وتعالقات بحيوات أخرى، وما قد يمثله حضورها داخل الرواية من رمزية. وكل ما قام به أحمد النعمان من بحث مكتبي (الرجوع إلى أوراقه التي كتبها عن الأحداث وهو وقتها وراء القضبان، قراءة مقالات صحفية ونصوص روائية وكتابات حول الموضوع إلخ.)وميدانيا، بالانتقال إلى الدارالبيضاء والتعرف على إبراهيم الكندي والاستماع إلى بعض الشهود ومحاولة التقرب من عائلات الضحايا والتسلل إلى مكان المقبرة الجماعية، السر إلخ) كل ذلك لم يكن إلا بناء تخييليا ذكيا من الكاتب، لبناء خطاب يروم توجيه مجموعة من الانتقادات اللاذعة وتقديم قراءة تحليلية للوضع السياسي والاجتماعي والحقوقي العام في المغرب. ويمكن باختصار شديد، أن نجمل ذلك على المستويات التالية: على مستوى الأحداث لقد استطاعت الرواية أن تنكأ الجراح وتعيدنا إلى تلك السنوات الجهنمية، لنرى كيف نزلت دبابات المخزن إلى الشوارع، وكيف حلقت مروحياته في سماء الدارالبيضاء وكيف حاصرت بمدفعياتها ورشاشاتها، شعبا أعزلا قهره غلاء المعيشة وانسداد الآفاق وضيق اليد وقلة الحيلة، فخرج للاحتجاج. وكيف كان القتل همجيا وعنيفا والرعب شديدا. وكيف تم التخلص من الضحايا الذين سقطوا ذلك اليوم الأسود بالمئات، في حفرة واسعة وعميقة بكفن ومن دونه، لمحو آثار الجريمة. وكيف تحملت أسر الضحايا وذويهم ما عاشوه من أوجاع ومن رعب سكن قلوبهم لسنوات طويلة وهم صامتين على الظلم والإهانة. "الأحداث الدموية في الدارالبيضاء، كانت علامة على احتقان شديد التوتر، ولعلها نتجت عن التفقير الذي أصبح يهدد حيوات الكثيرين على عتبة الإملاق…" صفحة 156. على مستوى السلطة ومؤسساتها تقدم لنا الرواية صورة واضحة عن السلطة عبر تحركها في جميع الميادين، فهي جبارة وبلا رحمة ولا ضمير، حين تقرر أن تبطش بمعارضيها وأعدائها.(أحداث الدارالبيضاء نموذجا) وهي فاعل أساسي في كل ما يدور في البلد( سياسي، اقتصادي، اجتماعي، حقوقي، ثقافي) ومشيطنة له، لتحقق أهدافها وتحمي مصالحها( حالة المجلس وفتيته الذين وصفهم الكاتب ببراعة مدهشة في المقطع التالي:"فتية طلقاء في صدورهم حمم، تغلي في عقولهم فراخ لا زغب لها، تبحث عن أجنحة للطيران" الصفحة 90. وهي أيضا، مبادرة ،جريئة وثورية حين تريد تبييض وجهها وتلميع صورتها وتغيير جلدها( الإنصاف والمصالة نموذج)"هذا المجلس يفرد لكل قضية لجنة ،سوف تتكفل بدراسة أوضاعها وتقديم نتائج تلك الدراسة لصوغ مفهوم "الانصاف"، ولو دون الحقيقة المطلوبة، فتكون الغاية هي" المصالحة" المبنية على أسس العدل ومتطلبات الانتقال الديمقراطي."الصفحة 158. على مستوى النخبة السياسية والحقوقية لم تسلم النخبة السياسية والحقوقية في "مربع الغرباء" من سهام النقد الحادة والموجعة، بل ربما القسط الأوفر كان من نصيبها. فهي ، طبعا دون تعميم، إما متعاونة، أو ومهرولة، أو متواطئة صامتة أو مهمشة مقصية. ويمكن حصرها كما أشارت الرواية إلى ذلك، في ثلاث فرق: 1_ اليساريين المنظمين، أو الثوار الشرعيين الذين قبلوا بالدخول في اللعبة السياسية وممارسة معارضتهم من داخل الإطار المنظم. ويعتبر إبراهيم الكيندي، صاحب البيانات النارية والمواقف الجريئة الواهمة بإحداث تغيير في المستقبل، أحد رموزه . "احكموا بما شئتم ووزعوا قرونكم على "المتهمين" ، وامنعوا ما شئتم ،وادفنوا في المقابر الجماعية ماطاب لكم القتل…لن ننسى ، سترون" الصفحة 210. 2_ اليساريين المهرولين، (بعض أعضاء المجلس) الذين ارتموا في أحضان السلطة دون قيد أو شرط ونفذوا خطتها في إقامة مصالحة أساسها التعويض المادي، دون مراعاة لحقوق الضحايا والمعتقلين السابقين في الحصول على اعتذار من الدولة ومحاكمة المسؤولين المتورطين في تلك الانتهاكات الجسيمة. مقدمين مصالحهم الشخصية ومكاسبهم المادية على كل شيء." أشخاص انتفاعيون لا يترددون في قضاء أغراضهم بمختلف الطرق التي يرونها إلى أهدافهم ممكنة، أو بالأحرى موصلة." الصفحة 53 3_ اليساريين الشرفاء، الذين عرضت الرواية على قارئها، بشكل مؤثر وفجائعي، مصيرهم الجماعي أو الفردي. ذلك المصير الذي لم يخرج عن القتل أو السجن أوالنفي أوالإقصاء والتهميش، ليس فقط من طرف السلطات، بل من رفاقهم أيضا، كما هو الحال مع محسن الرياحي، الذي سعيش حياة ضنكا ويموت ميتة بئيسة مريضا ووحيدا." هكذا صرت أنت الكاتب العام…أنتقد علانية ذلك التصرف الجبان الذي تصرفه مع محسن الرياحي إلى أن مات معزولا، لم تستر عزلته إلا تلك الفتاة التي أوفت في حبها له، راضية…." الصفحة 130. أو ما حصل مع أحمد النعمان، حين تنكروا لنضاليته والمجهود العظيم الذي قام به، في البحث والعثورعلى الحفرة/المقبرة. حتى إنهم، بمن فيهم مارية التي شاركته البحث والتقت رفقته مع الشهود، لم يذكروا اسمه في أي تقرير من تقاريرهم وكأنه لم يقدم ولم يفعل أي شيء. والخلاصة، أن الرواية تقدم شهادة وافية عما جرى في الماضي، برؤية تحليلية نقدية لكاتب مثقف، خبر العمل النضالي والحقوقي وأدى من حريته وشبابه ثمنا باهضا وراكم تجارب حياتية ثرية تقاطعت في مجالات شتى مع حيوات وتجارب أخرى، شهادة مكتوبة بالألم والغضب والدم والعنفوان، شهادة يلتبس فيها اليأس بالحيرة لكنها تنتصر للعدل والذاكرة ضدا في المجرمين والجبناء والمتواطئين والنسيان." انتهت مهمتي بانتهاء المجلس، الذي خرجت منه غير نادم على شيء. مع مهمته، انتهى البحث وانتهى التدشين. لم يكن الفرق إلا في الزمن. زمن المجلس كان في طلب المصالحة وإقرار العدالة الانتقالية، أما زمني فقد التبس باليأس والحيرة لعلي مرغته في ذاكرة محمومة لاشيء يدعو إلى الاصطبار على النسيان أو على الظلم…" الصفحة 344.