ويضم المعسكر حوالي 300 مهاجر من 11 جنسية مختلفة، ولتنظيم العيش اختارت كل جنسية ممثلا لها يجتمعون في خيمة خاصة كل أربعاء للنظر في قضايا وخلافات المعسكر. عاد كوامي للتو من الناظور التي تبعد ببضع عشرات الكيلومترات عن مدينة مليلية التي توجد تحت السلطة الإسبانية. فقد قام هذا الغاني (26سنة) مرة أخرى بمحاولة فاشلة للهجرة إلى أوربا. من أجل هاته المحاولة الثالثة، بقي مختبئا داخل الغابة المتواجدة على مرتفعات «غوروغو» المطلة على مليلية. «عندما حل الليل، قمنا بالهجوم، إذ ننزل جميعا في نفس الوقت حتى تكون لنا حظوظ أكثر للعبور. وننفذ هجومنا». لكن الصف الثاني من السياج الشائك الذي يعلو بستة أمتار أرغمه على التراجع، فقد أصيب بجروح جراء الاحتكاك بالأسلاك الشائكة المزودة بالشفرات التي تواصل السلطات الإسبانية وضعها بمليلية، بالرغم من أن معاهدة جنيف تمنع ذلك. ويعرض إحدى قدميه التي يخترقها جرح طوله عشرون سنتمترا تم معالجته وتضميده بشكل مرتجل. كانت قدمه منتفخة جدا حتى أن حجمها تضاعف.عاد كوامي إلى نقطة بداية رحلته الفاشلة، من أجل «تلقي العلاج» في «المدرسة»، وهو الاسم الذي يطلق على الأرض الواسعة الجرداء الموجودة على حافة الحي الجامعي بمدينة وجدة، حيث أقام المهاجرون معسكرا مؤقتا منذ قرابة عشرة سنوات، ويتكون أساسا من خيام أقيمت على أعمدة خشبية مهترئة، ويضم بطانيات وأغطية بلاستيكية. وقد تنامى عدد هذه الخيام بسرعة على بعد مرمى حجر من نوافذ المدرجات الجامعية. ويعيش في هذا الحي القصديري حوالي 300 شخص أغلبهم رجال في ظروف قاسية، إذ يتعين عليهم السير حوالي نصف ساعة من أجل الحصول على الماء الذي لا يكون صالحا للشرب. وتوجد عند مدخل كل خيمة، أكوام من الأزبال تجذب الكلاب الضالة؛ أما في الليل، يمكن للحرارة أن تنخفض إلى ما تحت الصفر. عمليا، كل المهاجرين من جنوب الصحراء المقيمين بالمغرب مروا من هنا. سواء كانوا ينحدرون من غانا أو من النيجر أو من بوركينا فاصو. لقد أصبحت وجدة، التي تضم400 ألف نسمة، والبعيدة بحوالي أربعة ساعات عن مليلية، وبخمسة كيلومترات عن الجزائر، مدينة العبور و مرحلة أساسية في رحلة المهاجرين بين إفريقيا وأوربا، فهم يتجمعون هنا، عندما يصلون إلى المغرب. ويعودون إلى هنا، عندما يتم ترحيلهم نحو الحدود الجزائرية. وهنا أيضا، يجدون الملجأ بين عمليتين فاشلتين للتسلل إلى مليلية أو حتى سبتة البعيدة.
زمن المهربين يبدي «كوامي» استعداده للذهاب مرة أخرى إلى الناظور «عندما يستعيد عافيته»؛ أما «عبدولاي روما كابري» فقد وضع حدا لحلمه الأوربي. «إنه أمر صعب جدا. لقد حاولت عدة مرات عبور الحدود في الناظور، ولكنني لم أنجح في كل محاولاتي. كان هناك قتلى، وتحدث دائما إصابات. إنه أمر خطير». وماذا عن العبور من البحر؟. «أخاف من الماء»، يجيب عبدولاي الذي أحرجه السؤال. لقد وصل إلى المغرب في 2005 انطلاقا من بوركينا فاصو. وذهب مباشرة إلى معسكر وجدة. وهناك الكثير من أمثاله الذين ظلوا هنا. توجد داخل المعسكر خيمة زرقاء تأوي حلاقا، وأخرى تضم شيئا يشبه المطعم، وأحجارا موضوعة في المدخل لها ملامح مسجد. «داخل المدرسة، نعيش في طمأنينة»، يقول «كوامي»، ولكن الأمر لم يكن بهذا الهدوء دائما. ويوضح عبدولاي الأمر قائلا: «من قبل، كانت تحدث عمليات سرقة وشجارات بين مختلف مواطني إفريقيا السوداء»، مضيفا: «كان المهربون يتحكمون في تنظيم الحياة داخل المعسكر، وكانوا يفرضون قانونهم. وكان كل واحد منا يشتغل من جانبه. وكانت تحدث بشكل منتظم عمليات تصفية حسابات». وقبل بضعة أشهر فقط، تمت تصفية مهاجر من غانا من طرف نيجيريين. وردا على هذا الأمر، تم طرد النيجيريين من وجدة وإحراق خيمهم «من أجل طرد الأرواح الشريرة « حسب قول عبدولاي، مضيفا: «ولكن ما زلنا منظمين. فمنذ 2007، قمنا بجمع كل الجنسيات،لأن الهدف نفسه يجمعنا، وهو الوصول إلى الشاطئ الآخر، فلماذا نضيع وقتنا في الخصام وفي الشجار؟».
«الاتحاد الإفريقي»! كل الحاملين للجنسية الإفريقية- يبلغ عددها حاليا 11 جنسية اليوم- رئيسا لجماعتها، وبالأقدمية، أصبح عبدولاي «رئيسا» على مهاجري بوركينافاصو الذين يبلغ عددهم حوالي 15 شخصا؛ فيما يبقى الماليون والكونغوليون الأكثر عددا في المعسكر بحوالي أربعين شخصا لكل جماعة. «مند القدم، وفي أي مكان يجتمع فيه الناس، يجب أن يكون هناك تنظيم محكم من أجل الحفاظ على النظام»، يقول مهاجر إفريقي المهووس بالأدب، والذي يتجول حاملا نسخة من «دستور أثينا لأرسطو»…»هنا، يجتمع الاتحاد الإفريقي، الحقيقي»، يقول الإيفواري «إدريسا داموي» في إشارته للخيمة الكبرى في المعسكر. توجد داخلها عشرات الكراسي البلاستيكية المتواضعة والموضوعة بشكل دائري من أجل استقبال «الرؤساء» الإحدى عشرة ومترجميهم، ثم يضيف رئيس المهاجرين الإيفواريين بالمعسكر «نجتمع كل يوم أربعاء من أجل التطرق لقضايا المهاجرين الأفارقة، ومن أجل توزيع المساعدات الغذائية التي نتوصل بها من جمعيات دعم المهاجرين في وجدة، ومن أجل إيجاد الوسائل لعلاج الجروح». وقد عينه الرؤساء الآخرون ، «كاتبا عاما لهم»، غير أنه يفضل أن يقول إنه «انتخب»، «لأننا نعيش هنا في أجواء ديمقراطية». إنها «ديمقراطية» بقوانينها الخاصة التي يعمل كل رئيس على توضيح تفاصيلها بكل عناية إلى كل الوافدين الجدد. «إن القواعد تبقى بسيطة:لا يجب أن تسرق،أو أن تتشاجر أو أن تزعج هدوء الطلبة المغاربة، أو المغاربة بشكل عام» يوضح إدريسا داموي. وفيما يتعلق بالعقوبات، يقوم كل رئيس جماعة بمهمة رجل العدالة داخلها. وبالنسبة لمواطني بوركينافاصو، ففي حالة السرقة، يؤكد عبدولاي، أنه يحاول إيجاد المسروق وإعادته لصاحبه، ولكنه لا يتحدث عن أي عقوبة. وعند الكونغوليين، يوجد تسامح أقل يوضح رئيسهم «شيري»، بأنه يتصرف كما لو أنه داخل أسرة. وإذا لم تحترم القانون، تتعرض للضرب ب «التشيكوت» (سوط جلدي موروث من المستعمرين البلجيكيين في الكونغو)». والعقوبة العليا هي التسليم للسلطات المغربية، «ولكن ذلك، يبقى نادرا، وعلى كل الرؤساء الاتفاق على ذلك». يؤكد «شيري».
«وسطاء جديون» يفرض «الإتحاد الإفريقي» النظام. وقد تكيفت الشرطة المغربية مع ذلك. «من قبل، كان رجال الشرطة يأتون بشكل منتظم من أجل طرد الناس. كان يتم أحيانا إحراق بعض الخيام. والآن، لا يدخلون مطلقا إلى هنا، وأصبحنا نحن، من يجد الحلول لمشاكلنا»، يوضح عبدولاي؛ حتى أن «الرؤساء» أصبحوا هم المخاطبين المفضلين للوزارة المكلفة بشؤون الهجرة. في بداية نونبر الماضي، أعلن المغرب إطلاق عملية استثنائية في يناير المقبل لتسوية وضعيات مهاجري جنوب الصحراء، ويتعلق الأمر بحوالي 25 ألف مهاجر سري، يأملون الحصول على بطاقة الإقامة، وبالتالي إيجاد عمل وسكن، فضلا عن تمتيع أطفالهم بحق الذهاب إلى المدرسة. لن تتم تسوية وضعيات الجميع، لأنه يجب تقديم أدلة تؤكد العيش على التراب الوطني مند خمسة سنوات على الأقل. والمحظوظين منهم لن يحصلوا سوى على شهادة إقامة لمدة سنة واحدة. من أجل تسجيل هذه الطلبات وإبلاغ المهاجرين بحقوقهم، يعتمد المغرب على المجتمع المدني. وتم التعامل مع «رؤساء» معسكر وجدة باعتبارهم «وسطاء جديين». وهكذا، عقد «الرؤساء» يوم الأحد 8 دجنبر وبشكل إستثنائي، اجتماعا تحت خيمة «الاتحاد الإفريقي» من أجل استقبال الكونغولي «مارسيل أميفيطو»، رئيس شعبة المهاجرين بالمنظمة الديمقراطية للشغل.. يعرف مارسيل المعسكر جيدا. فقد قضى به عدة أسابيع بعد وصوله للمغرب في سنة 2005. أتى إلى المسكر من أجل أن يبين «للرؤساء» المساطر والإجراءات الواجب القيام بها من أجل تسوية وضعيات المهاجرين الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء. «سنصبح أحرارا، والكثير منكم سيصبحون أطرا. ويوجد أيضا داخل المعسكر لاعبين جيدين لكرة القدم يمكن التعاقد معهم»، قال لهم مارسيل. قام «الرؤساء» بإبلاغ الرسالة لمرؤوسيهم، ولكن الجميع لا يتقاسمون معهم هذا الحماس، ف «سيدريك» الشاب الغابوني يتساءل: «وماذا سأفعل بأوراقي… هل أكلها؟ وأين هي الأوراق التي سأؤكد بها حقي في تسوية وضعيتي؟ لا أتوفر على أي أوراق تبوثية». ويحاول عبدولاي إقناعه بالقول: «إذا عرضوا عليك إمكانية الحصول على أوراق والعمل هنا، فلماذا سنذهب إلى أوربا؟ ألا تفضل خدمة القارة الإفريقية؟». ولكن من الصعب التخلي عن الحلم الأوربي.»سأستمر في محاولة عبور الحدود، ولن أتوقف سوى إن لم أعد أتوفر على القوة للقيام بذلك»، يجيب سيدريك. أياما قليلة بعد ذلك، التقى مارسيل وعبدولاي بالوزير أنيس بيرو، المكلف بشؤون الهجرة، من أجل إبلاغه بشكوك المقيمين في المعسكر. «عندما أتيتم، تصورت أن الأمل في عبور البحر الأبيض المتوسط كان يسيطر عليكم. والكثير منكم واصل المحاولات، غير أن هاته السياسة الجديدة تساعد على تحقيق حلم المغربي»، يقول الوزير المغربي مضيفا: «سنتعبأ جميعا من أجل تحقيق التشغيل والتعليم والصحة».
المعسكر الفارغ
مازال عبدولاي بدون أوراق بالرغم من انتقاله من المعسكر القصديري بمدينة وجدة إلى مكتب أنيس بيرو في العاصمة. وما زال يتشرب كلمات الوزير.»يجب أن تتركوا أثارا. ويجب أن يعلم أطفالكم بكل مغامراتكم، لأنكم تعتبرون رواد مجتمع مغربي جديد. كلنا هنا مهاجرون. والمغرب كان دائما أرض استقبال، وهو الشيء الذي يشكل غنى الشعب المغربي.». ولكن ماذا عن «غارات الأمن» وعمليات «الطرد» نحو الحدود الجزائرية؟. «كل ذلك ولى ولن يعود»، يؤكد الوزير. وكانت عدة وسائل إعلام مغربية قد أكدت أن حملة تسوية وضعيات المهاجرين الأفارقة يواكبها عنصر أمني، وبأنه سيتم تشييد سياج شائك جديد على الحدود بين المغرب والجزائر،غير أن أنيس بيرو أوضح أن هذه القضية ليست ضمن صلاحية وزارته، ولكن «الكرامة الإنسانية تبقى هي العنصر المركزي في سياسة الهجرة الجديدة». ويعترف المهاجرون أنهم يتنقلون بسهولة في مدينة وجدة منذ الإعلان عن حملة تسوية وضعيتهم القانونية؛ وبينما كانت عمليات الطرد المنتظمة إلى الحدود الجزائرية، تفضي وبشكل منهجي إلى تدفق مهاجرين سريين جدد على المعسكر، قد بدأ هذا منذ عدة أشهر يفرغ من ساكنيه. وقد اتجه البعض منهم بالفعل إلى الدارالبيضاء والرباط بهدف إيجاد عمل. «نشعر بهبوب رياح الأمل على المعسكر»، يؤكد عبدولاي. الشيء الجديد، أن السياسات المغربية ووسائل الإعلام المحلية بدأت تهتم بالمهاجرين. وأصبح بإمكان السريين منهم في وجدة، التحدث بكل حرية للصحافة دون أي خوف من السلطات التي تتركهم يفعلون ما يريدون. و»الرؤساء» الذين كانوا في الماضي يرفضون استقبال أي شاهد، أصبحوا اليوم، يقبلون استضافة الصحفيين. «من قبل، لم نكن نتركهم يعودون بآلة التصوير الخاصة بهم»، يحكي الكاتب العام للمعسكر،إدريسا داموي قبل أن يضيف: «أما الآن، أصبح الوضع مختلفا، وما عليهم سوى أن لا يأتوا بأيدهم فارغة، مثلما يفعلون لما يدعوهم أحد إلى العشاء». في الخارج كان هناك فتى، في العاشرة من عمره، يبدي ابتهاجه لوصول صحفيين محملين بعدد من الأغطية، وكله أمل في مستقبل أفضل، فبادر وجرب حظه قائلا: «وأنا، أريد دراجة».