ومن أهم الخلاصات التي يخلص إليها عبد الحي المودن، الباحث وأستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق بالرباط، أن الثورات العربية الجديدة لم تتمكن من تقويض الدولة العميقة. إذ يشير إلى أن الثورة المضادة، التي قادها الجيش في مصر مثلا، اكتسبت قوة أكبر. في حين، يعتبر أن البديل الإسلامي لم يتمكن حتى الآن من صياغة قرارات حاسمة من أجل التغيير، وإن لم يحكم عليه بالفشل نهائيا. هل يمكن القول إن ما شهدته دول الربيع العربي خلال الشهور القليلة الماضية هو مظهر من مظاهر العودة التدريجية للأنظمة السابقة وانزلاق نحو تسلط جديد؟ أم أن الأمر هو بمثابة مجرى طبيعي لما بعد الثورة؟ يمكن القول إن جميع الثورات تخلق ثورات مضادة. وما لوحظ في هذه الظاهرة الجديدة كل الجدة على المنطقة العربية منذ سقوط الرئيس زين العابدين بن علي هو أن الثورة تنجح في تعبئة مجتمعية سريعة، وتنتهي بسقوط عدد من الأنظمة السياسية السلطوية. والأمر المفاجئ فيها أنها كانت بسرعة أكبر من سابقاتها في مناطق أخرى من العالم. إذ يمكن تفسير ذلك بوسائل الاتصالات، وبسرعة انتقال المعلومات، وبالقدرة على التعبئة المجتمعية بواسطة وسائل الاتصال الإلكترونية المختلفة. لكن، وفي الوقت نفسه، فإن الإطاحة برموز الأنظمة، وأيضا بخطابات ولغة الأنظمة السابقة، أدت إلى ظاهرتين: الظاهرة الأولى هي أن الحركات التي تزعمت هذه الثورات، وهي الحركات الليبرالية، ستختفي من الساحة؛ والظاهرة الثانية هي أن المرحلة التي انتقلت فيها هذه الثورات عن طريق المشاركة المؤسساتية المنظمة عن طريق الانتخابات ستفرز ظهور القوة السياسية الأكثر تنظيما، وهي القوى الإسلامية. إذ يبدو أن هذه الظاهرة انطبقت على جميع الأنظمة العربية التي شهدت الثورات؛ أي تراجع القوى الليبرالية، ثم صعود التيارات الإسلامية.
وماذا ترتب عن هذه الوضعية في نظرك؟ خلقت هذه الحالة شروطا للثورة المضادة؛ وهي أن تلك القوى المجتمعية، أو الاقتصادية، أو الفكرية التي كانت تستفيد من النظام السابق سعت إلى إضعاف الثورة، وإعادة اكتساب مواقعها، وهو ما حدث في مصر. وأعتبر أن مصر شكلت النموذج الأبرز، لأن القوى السياسية، التي تمثل الدولة العميقة (وهو المصطلح الذي عاد بقوة) تمكنت من أن تحتل الموقع الرئيس في الساحة السياسية. وهذه الدولة العميقة يتزعمها الجيش، ومن ورائه القوى الاقتصادية والقوى الثقافية التي لم تكن منسجمة مع التيار الإسلامي، بل معارضة له. لكن بالنسبة إلى مصر وتونس، فإن موقف الحركات الليبرالية هو الذي يمكن اعتباره أنه يشكل حالة جديدة، وهي أن التيارات الليبرالية وشرائح واسعة من المجتمع تموقعت في صف الدولة العميقة لمواجهة ما اعتبرته خطر اكتساح التيارات الإسلامية. لذلك، فإن الوضعية الحالية هي أن الدولة العميقة تسعى إلى استئصال التيارات الإسلامية، كما يحدث في مصر؛ أو إلى إضعافها، كما يحدث في تونس، وتعويضها بالقوى التي كانت تمثل في السابق مؤسسات الدولة العميقة؛ أي تعويضها بالجيش بشكل واضح في مصر. وتدور في فلك الجيش المصالح الاقتصادية والشرائح الثقافية التي أصبحت تلعب دورا في شرعنة هذا النوع من الثورة المضادة.
تباينت مواقف الدول تجاه ما حدث في مصر: هناك من جهة الدول الخليجية التي دعمت «الانقلاب» على حكومة الإخوان، وهناك من جهة ثانية رفض الدول الغربية لما حدث، في الوقت الذي ينبغي أن تدعم هذه الأخيرة القوى الليبرالية. كيف تفسر هذا التباين؟ بالنسبة إلى القوى الغربية، كانت التيارات الأكثر اقترابا من رؤاها هي التيارات الليبرالية. لكن هذه الأخيرة لم تترجم قوة تماسكها وخطابها الإيديولوجي إلى قوة سياسية، وبالتالي أصبحت القوى الغربية أمام خيار: إما دعم التيارات الإسلامية التي أفرزتها صناديق الاقتراع، وهو الأمر الذي أظن أن القوى الغربية قادرة على التعامل معه، كما حدث بالنسبة إلى صعود التيارات الإسلامية في تركيا، بعد أن تتحول هذه القوى الإسلامية إلى حكومات وبرامج اقتصادية واجتماعية، وإما انتظار أن تضعف شحنتها الإيديولوجية وتصبح قوى سياسية محافظة شبه عادية يمكن للقوى الغربية أن تتفاعل معها، وأن تقبل بها. لكن، ومن جهة أخرى، لم تكن القوى السياسية الداخلية مرتاحة لهذه التحولات. وبالنسبة إلى دول الخليج، فإن الدور الذي كان بالإمكان أن تلعبه هو أن تمول الخسائر الناجمة عن عدم قدرة الثورة المضادة على تمويل الخسائر الاقتصادية بنفسها، من قبيل تراجع السياحة والاستثمارات. ومن هنا الدور الذي لعبته الدول الخليجية، التي لم تكن مرتاحة ليس فقط، للحركة الإسلامية، بل لفكرة الثورة أيضا. لذلك أتصور أن الدول الخليجية لعبت دور الممول المالي والاقتصادي للقوى المحافظة والثورات المضادة، التي سعت إلى الإطاحة بالأنظمة، ولتغيير النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع. ومن الناحية المالية، يمكن لهذه الدول أن تلعب هذا الدور الآن، لكن ما تحتاجه هو الاستثمارات الاقتصادية، وليس الدعم المالي المباشر. فهي تحتاج إلى دورات اقتصادية عادية، حيث من الممكن أن تمول العربية السعودية أو الكويت العجز المالي في مصر لمدة قصيرة، لكن الاقتصاد المصري لا يمكن أن ينطلق إلا عن طريق الاستثمارات في النشاط السياحي، والتجارة، الخ.
بالنسبة إلى المحلل السياسي، هل يمكن القول إن هذه الفترة التي تولى فيها الإسلاميون الحكم، خاصة في مصر وتونس والمغرب، كافية للحكم على فشل البديل الإسلامي؟ يحتاج الحكم على تجربة سياسية إلى عمر سياسي؛ أي إلى فترة انتخابية تتراوح بين أربع وخمس سنوات. وحتى هذه الفترة هي، في نهاية المطاف، غير كافية، لأنها فترة قصيرة. لكنها، في الآن ذاته، كافية لكي تشير إلى هذه المؤهلات التي تتوفر عليها التيارات الإسلامية في تدبير الشأن العام. إذ يبدو أنها محدودة لكي تفرز ماهية التصورات التي يمكن أن تكون لهذه التيارات عندما تتحول من مجال المعارضة إلى مجال صنع القرار. وتشير كذلك إلى عجز في هذه التصورات، وفي مؤهلات التدبير، والأجندات، الخ. لكن، كيفما كان الحال، لا يمكن، اعتمادا على هذه الفترة القصيرة، أن نقول إن الإسلاميين فشلوا، لأن الأحزاب اليسارية، خاصة الأحزاب الاشتراكية، في البلدان الرأسمالية، كما هو الأمر في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، كانت تحتاج إلى فترات طويلة نسبيا، لكي تكتسب الخبرة الميدانية، ثم تتأقلم مع الواقع السياسي والاقتصادي، وتتشكل لدى القوى المعارضة القدرات والإمكانيات في أن تبلور معارضة جديدة، معارِضة للقوى الحاكمة، والتي هي القوى الإسلامية في هذه البلدان. ما استفاده اليمين في البلدان الديمقراطية الرأسمالية هو أن اجتهد في أن يصوغ إيديولوجيات، ويعيد بلورتها، لكي يواجه هذه القوى السياسية التي كانت جد مغرية على المستوى المجتمعي. وما لاحظناه بالنسبة إلى البلدان العربية هو أن هذه القوى المعارضة للإسلاميين لم تتحلَّ بهذا الصبر، أو لم تكن لها القدرة على أن تبلور تصورات، بصبر وثبات، على المستوى المتوسط لكي تعارض الإسلاميين، انطلاقا من التنافس على صناديق الاقتراع. وفضلت الحل الآخر، وهو الاحتماء بالجيش، أو الاحتماء بفكرة الانقلاب أو الثورة المضادة، وهو الأسهل من الناحية الميكانيكية، حيث سيكسبها ربحا على المستوى القصير. ولكن لا أتصور أن هذا الربح سيكون ضمانا لاستقرار سياسي في هذه البلدان.
هناك من يقول إن التيار الإسلامي، لكي ينجح، يجب أن ينطلق من أرضية علمانية، كما هو الشأن في تركيا. إلى أي حد يصح هذا القول؟ يصح بالنسبة لما تحتاج إليه الأحزاب، سواء كانت أحزاب اشتراكية أو دينية؛ ذلك أنها تحتاج إلى الخبرة في التدبير، والإنجاز على المستوى الاقتصادي، وكيفية خلق تحالفات. كما تحتاج إلى البحث عن توافقات. إذ يمكن أن تتخذ هذه الإجراءات كلها صبغة دينية أو علمانية، لكن المهم هو أنه يجب أن تحقق هذه التجارب إنجازات. من الصعوبة أن تشكل تحالفات وتوافقات بين تيارات دينية وتيارات علمانية على أساس ديني. لابد من إيجاد مخارج، حيث يجب أن تتحقق هذه المخارج بمصطلحات جديدة، وتصورات جديدة، والاعتماد على نصوص جديدة. إذ المهم أن هذه الأحزاب، التي كانت في المعارضة وكانت لها تصورات تروم تعبئة قواعدها، تحتاج إلى خطابات ووسائل وأدوات جديدة عندما تتحول من المعارضة إلى صنع القرار ودعمها وتنفيذها، الخ. هذا جوهر الإشكال الذي سيواجه ليس فقط، الإسلاميين، وإنما جميع التيارات السياسية التي يكون رأسمالها الأساس هو الأطروحات الإيديولوجية.
ما الذي استفاده الفكر والمفكر السياسي المغربي من كل هذه التحولات الإقليمية؟ يستفيد أن المجتمعات تكلمت بصوت مرتفع وفعال، ولكن فعاليتها كانت قصيرة النفس، ثم إن هذا البركان الذي انفجر، أخرج من ذاته عددا من الكنوز التي نستفيد منها جميعا، والتي تساعد على فهم هذا المجتمع العميق، الذي يعبر عن ذاته بغضب وحرية. هذه كلها معطيات تساعدنا على أن نقترب أكثر من فهم المجتمع. كما تساعدنا على أن ننظر إلى هذه المجتمعات العربية في إطار ما هو معروف من تجارب عالمية، تجارب الثورات التي كانت المنطقة العربية بعيدة عنها، وهي تساهم فيها الآن بتجربتها العملية، وتساهم بخطابات جديدة وتجارب فكرية جديدة. من هنا، فهذه كلها معطيات لا يمكن إلا أن تغني فهمنا للمجتمع وتساهم أيضا في كون السياسة ظلت في المجتمعات العربية حكرا على الدولة. لا أقصد هنا سياسة المعارضة أو سياسة الاحتجاج، بل السياسة بما هي أداة لصنع القرار. هذا مجال جديد على المجتمع. وما يلاحظ لحد الآن أن المجتمع أصبح، لأول مرة، يخطو خطوات في مجال السياسة بهذا المفهوم؛ أي بمفهوم صنع القرار. وهذا يظهر من تجربة مصر وتونس والمغرب، ذلك أن هذه المرحلة مليئة بالانزلاقات والمعارج غير المتوقعة. ولكن لا يمكن الاستغناء عنها، لكي نفهم، ويتدرب المجتمع على أن يصنع مستقبله تدريجيا.
وهل ساعدت المفكر السياسي على أن يحقق إضافات نظرية في الفكر السياسي؟ ليس بعد. ليست لدينا معطيات بصورها المكتملة. هناك من سيقول إنه ليس هناك صورة مكتملة لأي ثورة. لكن أظن أن الإضافات التي تساهم بها التجربة العربية تكمن في قدرة الدولة العميقة على أن تعود للساحة، وقدرتها على أن تحجم من الدور أو من التحرك المجتمعي الواسع الذي انطلق من الربيع العربي. كما أتصور أن مساهمة الثورات العربية في فهم فكرة الثورة ليست الثورة، في حد ذاتها، وإنما قوة الثورة المضادة وقوة الدولة العميقة التي تظهر الآن من الإشارات المتفرقة التي تبدو في صورها الأولى، أو تبدو أكثر وضوحا بالنسبة إلى مصر على أن الثورة الجديدة لم تقوض الدولة العميقة نهائيا.