تغرد بعيدا جدا خارج سرب الاجماع، بل وتتجاوز الخطوط الحمراء المسموح بها في الانتقاد السياسي، من أين تستمد كل هذه الشجاعة؟ لم أعتبر يوما ممارسة العمل الصحفي باحترام القواعد المهنية المتعارف عليها عملا شجاعا، كما لا أعتبر نفسي الصحفي الوحيد الذي ينعت بهذا الوصف لأنه مارس مهنته بحرية..الصحافة عمل نبيل، ليس لأنها تشكل سلطة رابعة، ولكن لكونها تنقل نبض النقاشات التي تحرك المجتمع.. لازالت حرية التعبير بعيدة المنال في المغرب، وأعتبرها بلغت الحضيض فرغم تزايد عدد المنابر الصحافية، كثيرون هم الصحفيون الذين يعانون من تحامل السلطات. وما أنا إلا واحد من أولئك الذين لا يقبلون أن يتعرض قلمهم للمضايقات بسبب النواهي السياسية، فقط، لكونها تسبب إزعاجا للفكر الوحيد الذي يمليه النظام.
أنت متهم بتشويه سمعة وطنك بكتابك «باريس، مراكش: الترف والسلطة والشبكات»؟ أظن أن دور الصحفي ليس تجميل الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لبلده، فهذه مهمة الأجهزة الرسمية.. أعتبر كتابي هو حصيلة تحقيق عن العلاقات المحرمة التي تنشأ بين النخب الفرنسية والمغربية.. قد تكون الوقائع التي أوردها الكتاب صادمة، لكنها حقيقية ولا يمكن إنكارها، ومن حق الرأي العام الاطلاع عليها، وأعتبر فضحها في هذا العمل، هو في صالح بلدي على عكس «البروباغندا» التي تقول العكس وتتستر على هذه الحقائق خدمة لمصالحها الخاصة.. لهذا، فليس صدفة أن يمنع كتابي بالمغرب .
كما أنك متهم أيضا بكونك عميل للنظام الجزائري ومتواطئ مع صحافته ضد مصالح بلدك؟ أتدرين، أنا متهم أيضا بكوني عميلا للمصالح الفرنسية والإسبانية، وجاسوسا مسخرا من البوليزاريو والموساد ومخبرا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية واللائحة طويلة… شخصيا، لا أقيم أي اعتبار للنظام الجزائري لأنه ليس نموذجا ديمقراطيا، ولكني أحترم – مثل العديد من زملائي- بعض الصحفيين الجزائريين الذي ينتقدون أخطاء نظامهم السياسي، وقد أعبر عن آرائي عبر الصحف الجزائرية والدولية إذا أتيحت لي فرص لذلك، خصوصا بعد صدور كتبي… وبعيدا عن الشوفينية الوطنية لبعض نخبنا، على المفكرين والفنانين والإعلاميين والمواطنين في البلدين أن يناقشوا ويتبادلوا الآراء بشأن مستقبلهم المشترك.
تتجول بحرية في المغرب، رغم أنك مطلوب للعدالة بسبب قضية الديون المتأخرة والحجز على كل ممتلكاتك، هل سويت كل ديونك وخلافاتك مع النظام؟ القرار القضائي بإغلاق جريدة «لوجرنال إيبدومادير» كان مجحفا ومجرد ذريعة مقنعة لتصفية هذا المنبر الذي يزعجهم..والصحفيون المساهمون في الجريدة – وأنا واحد منهم _ تم تجريمهم وتغريمهم، وبالتالي تفقيرهم بهدف إسكات أصواتهم. لقد اضطررت للمنفى لأنني لم أعد قادرا على ممارسة مهنتي بالمغرب في ظروف محترمة. أنا الآن حر في تحركاتي، لكن قضية «لوجرنال» لم تغلق بعد.
ألفت كتابين جريئين ضد النظام المغربي، تصرح بآراء قوية ضد المغرب، ومع ذلك تدخل البلد بحرية وتجيب عن أسئلة جريدة وطنية، هل هذا يعني أننا في بلد يحترم حرية التعبير؟ في البداية، أود أن أوضح أن كتبي ليست ضد المغرب كما جاء في سؤالك، كتبي تنقل واقعا وحقائق غير مقبولة لازالت قائمة.. أنا لا أنتقد وطني، بل إخفاقات النظام السياسي .. لا أتفق معك بأن هناك حرية للتعبير، والدليل على ذلك هو الرقابة الممارسة ضد كتبي بقرار سياسي، وأيضا ندرة المنابر الصحفية التي تمنحني فرصة الحديث، أنا مسجل في اللائحة السوداء لدى الإعلام الرسمي وآخر برنامج ظهرت فيه في التلفزيون المغربي يعود إلى سنة 1999.
لماذا كانت صحيفة «لوجرنال» مرغوب فيها قبل بداية العهد الجديد، وتحولت فجأة لمشكلة للنظام بالمغرب..؟ لا يمكنني الجزم بأن صحيفة «لوجرنال» كانت مرغوبا فيها من قبل النظام في بدايتها، فالظرفية السياسية التي رافقت تأسيسها سنة 1997 كانت مواتية لنشأة صحافة مستقلة عن السلطة وعن اللوبيات الإقتصادية..فنهاية حكم الحسن الثاني وحكومة التناوب والالتزام الجيد للمجتمع المدني والظرفية الدولية، كلها عوامل شكلت أرضية لحرية التعبير، وإذن بكل بساطة، نحن ظهرنا في الوقت المناسب محملين بأفكار جديدة وبأساليب عصرية لممارسة الصحافة. كنا متعطشين للتغيير وصدقنا الآمال التي جاءت مع العهد الجديد، لكننا كنا واهمين، فكل شيء تلاشى لما اطمأن المخزن لاستمرارية هيمنته… بخلاصة، لم نقبل أن نلحق بركب الذين انخرطوا في الإشادة بالعهد الجديد لقضاء مآربهم الخاصة، حافظنا على استقلاليتنا وهذا لم يرقهم. إذن حرية التعبير لم تقدم لنا على طبق من فضة، لقد انتزعنا حقنا بأيدينا بنجاحنا المهني وحب القراء، وبقية الحكاية تعرفينها.
تتجاوز أحيانا أخلاقيات الكتابة والانتقاد وتهاجم خصومك السياسيين بفضح أسرار ائتمنوك عليها، مارأيك؟ سؤالك هذا، فيه نوع من الاتهام المبيِّت، أنا لست خصما سياسيا لأي كان، أنا صحفي ولست فاعلا سياسيا ولا أتوفر على أي ولاية ولا أنتمي إلى أي حزب سياسي، فأنا مثل سائر الصحفيين الذين يحترمون أنفسهم، ملاحظ، ينقل أخبار الساحة المغربية ولا أدلي بآرائي إلا في هذا الإطار .. سمعت هنا وهناك انتقادات بشأن تصريحات وردت في كتابي الأول «محمد السادس سوء الفهم الكبير» اعتبرت أنني لم أحترم مصادري، ولكن من وضع هذا النوع من الانتقادات يقوم بخلط كبير على مستوى قواعد المهنة بغرض دحض مصداقية معلومات محرجة.. وبعبارة أوضح، أصف وأنقل في كتابي مشاهد واقعية كشخص شاهد على عصره يكتب لمحات من مذكراته، ولا ينبغي الخلط بين هذا الأخير وقاعدة «أون»و «أوف» التي يتوجب على الصحفي المهني الالتزام بها كما يحترم الطبيب قَسَمَ أبوقراط. فعندما يكشف مصدر عن معلومة ذات طابع سري لصحفي ما في إطار قضية معينة، فإن الصحفي مجبر على حماية مصدره حتى ولو كان أمام القضاء. وشخصيا أحترم بتفاني هذا المبدأ طوال 17 سنة من العمل.. أما هذا الخلط فيرجع إلى الجهل بهذا الفرق الكبير، وأعتقد أيضا أن مرده غياب ثقافة «الذاكرة التاريخية».. وإذا اتبعنا خطاهم في أماكن أخرى في العالم، فلن يقوم أي صحفي بنشر كتب التحقيق السياسي. كما أعتقد أن ندرة المذكرات سواء تلك المؤلفة من صحفيين أو فاعلين سياسيين تساهم في هذا الخلط.
الخروج عن الإجماع الرسمي مكلِّف جدا، ما هو الثمن الذي دفعه علي عمار؟ أكبر ضريبة أدفعها مقابل خروجي عن الإجماع، هي حرماني من ممارسة مهنتي في بلدي مع جعلي فريسة لتحامل قضائي وأمني، وهذا كان له أثر قاس على حياتي الخاصة.. لكن هذا لا يهم، المهم هو أنني مستمر من خلال كتاباتي في الصحافة الدولية ومن خلال نشر الكتب. وسواء بالنسبة إلي أو للآخرين، فالرقابة لم تنجح في النيل من ذوي الفكر الحر بالمغرب، وهذا انتصار للمستقبل.
تبدو وكأنك أحرقت كل مراكب العودة، هل هناك فسحة للحلم بالعودة إلى الكتابة والنشر من وطنك؟ ليس من السهل على صحفي أن يختار المنفى في ظل حصار لقلمه من طرف السلطة.. أنا فخور كوني أنتمي إلى جيل ساهم في محو الأوهام وتكسير الطابوهات وإعادة الاعتبار لكرامة المغاربة. لكن رغم كل الإكراهات وصعوبة تأسيس صحافة مستقلة بالمغرب بسبب الرقابة الممنهجة ومقاطعة الإشهار، فلا أنوي أن أمضي بقية حياتي بالخارج، عازم على العودة إلى بلادي، وآمل أن يكون ذلك في المستقبل القريب.
ماهو كتابك القادم، وهل سيغرد خارج سرب الإجماع كالعادة؟ أشتغل على مشروع كتاب جديد سيصدر في غضون أشهر قليلة بفرنسا، للأسف العقد الموقع مع دار النشر لا يسمح لي بالإفصاح عن تفاصيله.
كيف شعرتم في «لوجورنال» وأنتم ترون زملاء لكم يهاجمونكم في خضم أزمة مجلتكم والتي انتهت بتصفيتها؟ هذا الأمر ليس مهما حاليا، أنا أتأسف لأجلهم.. فالكتابة تدوم، أليس كذك؟ التاريخ هو الذي سيحكم على بصمات كل واحد منا، وأشك بأنهم سيكونون من هؤلاء الذين سيخلفون يوما أثرا في كتابة التاريخ.