لاحظ علي الكثير من الزملاء، وحتى غير الزملاء ممن يغارون على مهنة المحاماة، أو يهتمون بشؤونها، أني عودتهم عل أن أعبر عن رأيي في كل ما يجري ويدور بخصوص الشأن المهني. وبخاصة عندما يتطور الأمر إلى وقفات واحتجاجات وصدامات. ولكنني هذه المرة التزمت الصمت و " تقاعست " عن إبداء الرأي في شأن " إجبارية الجواز الصحي " للولوج إلى المحاكم، وكذلك في شأن " شرعية" الدورية الثلاثية الصادرة عن السيد محمد عبد النباوي الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والسيد حسن الداكي رئيس النيابة العامة، والسيد عبد اللطيف وهبي وزير العدل، التي فرضت اعتماد جواز التلقيح كوثيقة إلزامية لولوج المحاكم من قبل المرتفقين من متقاضين وموظفين ومحامين. وكنت أجيبهم، بأن موقفي من مثل هذه الأحداث معروف وثابت لم يتغير. فإن الجل يعرف عني: – أنني أفرق دائما بين مهنة المحاماة التي هي عندي رسالة إنسانية ذات قدسية. وبين المحامين المنتسبين إليها الذين ليس من الضرورة أن تتوافر هذه القدسية في العدد الكثير منهم. كما هو الحال بالنسبة لسائر المهن الأخرى، التي تجد فيها المنتسب الصالح، كما تجد فيها المنتسب الطالح. ومما يدل على ذلك عدد الشكايات المقدمة ضدهم إلى النيابة العامة أو إلى السادة النقباء، وعدد المقررات الصادرة في هذه الشكايات. – وأنني أعرف أن سبب نزولنا إلى ما دون الحضيض، ليس هو مؤامرات تحاك ضدنا من خارجنا، كما اعتاد البعض منا ممن عششت في ذهنه فكرة المؤامرة الخارجية، أن يروج لذلك لإبعاد مسؤوليتنا عنه. وإنما سببه عدة عوامل داخلية من بينها: إصرارنا الدائم على المطالبة بتعديل قانون المهنة برمته، دون أن يخطر ببالنا، أو أن يدور بخلدنا أن من أبجديات الصنعة التشريعية، أن القانون لا يخضع برمته للتعديل، إلا إذا حدث هنالك تغيير جوهري في فلسفته، كما لو استقر الرأي بنا على الخروج من أسار النظام اللاتيني المشبع بالمثل الطوباوية، الذي يعتبر مصدرا لمهنتنا ولكافة المهن الفكرية الأخرى، إلى النظام الأنكلوساكسوني البراغماتي، الذي يتيح للمحامي حرية كبيرة في التعامل والتحرك، لا يتيحها ولا يوفرها له النظام الأول الذي أصبحت قواعده متخلفة وبالية. حتى أن المحامين الخاضعين له بفرنسا ذاتها أصبحوا يشتكون من المنافسة القوية التي أصبح المحامون الأنكلوسكسون يشكلونها عليهم ليس فقط في عقر دارهم، بل وكذلك في العديد من البلدان وخاصة في أفريقيا التي كانوا يعتبرونها مجالا حيويا لاستثماراتهم. ولو أننا كنا نتقدم كل سنة، إلى من يجب قانونا (البرلمان أو الحكومة) ، بمقترحات أو بمشاريع قوانين من أجل تعديل بعض المقتضيات ذات الراهنية فقط، لكان قد نالنا من ذلك حظ وفير من المكاسب والمغانم، أقلها تنظيم شروط الولوج إلى المهنة بجعلها بالشهادات العليا، وبالمباراة في البداية، بدل الامتحان ، أسوة بكافة المهن القضائية الأخرى كالقضاء والتوثيق بنوعيه والمفوضين القضائيين .. . ولكنا ظللنا نتمسك بتغيير قانون المهنة برمته، فلم يخرج هذا القانون إلى الوجود في ظل عدة وزارات متعاقبة على العدل. وبقي حالنا على حاله لا يعرف التغيير والتبديل. الطريقة التي كانت تمر فيها امتحانات الولوج إلى المهنة، وكان من نتائجها إغراقها بالعدد الكثير من الداخلين إليها، وكان لنا فيها دور كبير بحكم مشاركة الجمعية وهيئات المحامين في تشكيل الهيئة المشرفة عليها وفي المراقبة والحراسة. ما نتج عن ذلك وغيره من غياب للمنافسة الشريفة بين المحامين، ومن انتشار للسمسرة والفساد بين العديد منهم. وعوامل أخرى كثيرة يضيق بنا المقام هنا إذا ما أردنا التعرض إليها، وتفصيل القول فيها. وهي في كل الأحوال غير غائبة عن معظمنا. – أنني أغلب دائما ثقافة الحجاج على ثقافة الاحتجاج، وأنتصر دائما إلى جانب الحكمة والتعقل والفكر الرزين. واعتبر أن سلاح المحامي الذي ينتمي إلى نخبة النخبة، ونجاحه في ممارسة مهنته يعتمد بصفة أساسية على القانون والمنطق، هو مقارعة الحجة بالحجة، ومواجهة الرأي بالرأي، والصدع بالحق أو بما يعتقد ويتصور أنه الحق، بالقلم واللسان وبقوة المنطق، لا مواجهة الرأي بالوقفات والاحتجاجات أو بمنطق القوة. فإن هذا النوع من رد الفعل الانفعالي السريع الذي لا يليق أن يصدر عن النخبة، أو أن يكون محركا موجها لها في ما يصدر عنها من مواقف، هو سلوك مرفوض؛ لا يمكن أن يصدر إلا من أصحاب العقول الاتباعية الذين لا يصدرون في ما يبدونه من آراء، وفي ما يتخذونه من مواقف عن عقل حر تحركه إرادة حرة ومستقلة فاعلة، وإنما عن عاطفة تحركها مشيئة تابعة منفعلة. وشخص هذه طريقة تفكيره، وهذا أسلوبه وديدنه في اتخاذ القرارات، لا يمكن له إلا ان يعارض هذا النوع من الوقفات والاحتجاجات، وألا يقبل الذرائع التي تتخذ من أجل تبريرها ، مهما كانت هذه الذرائع والمبررات . وهو لا يعدم الأدلة والبراهين والحجج التي تؤيد موقفه وتزكيه . ومن هذه الأدلة والحجج والبراهين : أولا، أن هذه الوقفات والاحتجاجات ليست وليدة اليوم. فإنها كانت أسلوبا للمواجهة، عرفناه حتى في أيام وزير العدل السابق الأستاذ المصطفى الرميد الذي لم تخل أي فترة من فترات انتدابه في هذه الوزارة، من هذه الاحتجاجات والوقفات حتى أطلق أصحابها على إحداها التي جرت يوم 29 نونبر من سنة 2013 أمام مقر البرلمان بالرباط " وقفة الكرامة " ، حتى أن أحد الزملاء، كما يحكى، علق على أحد المحامين الذي لامه على عدم المشاركة معهم في هذه الوقفة " وقفة الكرامة " ، أن عدم مشاركته فيها كانت منه موقفا منطقيا وطبيعيا؛ وعندما استغرب وسأله كيف ؟ رد عليه : ببساطة لأن له كرامة، لذلك فهو ليس في حاجة إلى أن يقف في العراء من أجلها. ثانيا، أن هذه الوقفات والاحتجاجات التي يحركها في الغالب السلوك الانفعالي الاندفاعي، معروف من يدعو إليها أو يشارك فيها، مثلما هي معروفة الدوافع والدواعي إليها. ويكفيك إذا أنت أردت أن تكون فكرة أقرب إلى الحقيقة عن ذلك ، أن تسجل على هذه الوقفات والاحتجاجات: – أن اغلب المشاركين فيها هم من الأساتذة المتمرنين ، أو من المحامين حديثي العهد بالممارسة الرسمية ، أو ممن لهم أهواء سياسية لا يجمعها بقطاع العدل إلا الخير والإحسان ، أو مصالح انتخابية مهنية يستعدون لها منذ الآن . – أن عدد المحتجين لا يتجاوز في أكثر التقديرات الأربعمائة أو الخمسمائة محامية ومحام من أصل أربعة عشر ألف محام. ومع ذلك تراهم لا يتورعون عن التحدث باسم الجميع والادعاء بأن كافة المحامين مجمعون على مشايعتهم في ما يتخذونه من مواقف، وما يعبرون عنه من آراء. والحال أن الأغلبية العظمى من المحامين متذمرة مما يفعلون. ولو أن استفتاء أجري بين كافة محامي المملكة، لبانت للجميع هذه الحقيقة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، وناصعة بيضاء كالثلج في القطب الجنوبي من الأرض. أن العامل السيكلوجي، وخصوصا الرغبة في إثبات الذات بسرعة ، يلعب دوره في هذه الاحتجاجات. ولا سيما بالنسبة إلى المنتسبين الجدد إلى المهنة الذين وجدوا أنفسهم أمام تكاثر المحامين وازدياد عددهم، وأمام خفوت وهج وبريق المهنة التي كانت تعتبر مهنة للنبلاء تفضي إلى الثراء السريع، كالغرباء بين زملائهم، ومحاولة منهم لإثبات ذواتهم أخذوا يلجئون إلى هذه الاحتجاجات والوقفات للفت الانتباه إليهم من جهة، ولممارسة نوع من التحكم والتسلط على زملائهم القدامى بالعتب عليهم ولومهم بسبب عدم مشاركتهم إياهم في هذ الوقفات والاحتجاجات، وعدم الانضباط إلى ما يتوهمون أنه الموقف الصحيح و الصائب، وهو الموقف الذي يطلقون عليه " النضال " من أجل الكرامة . وهم لا يدركون أن هذا الموقف ممن سبقوهم هو أحد الأسباب التي جرت على المحامين، وليس على المهنة، كل هذه الكوارث، وحرمتهم وستزيد في حرمانهم مما حققه المحامون القدامى الأولون من مكاسب للمهنة، أيام كانت لهؤلاء المحامين القدامى كاريزما وشخصية قوية، وسمعة مدوية، وصوت مجلجل، ومواقف حازمة، تفرض على الغير احترامهم وتقديرهم بسبب ما تراكم لديهم خلال سني حياتهم الدراسية والمهنية من ثقافة موسوعية واسعة، ومن دراية متينة بالقانون والمنطق، ومن دربة وتجربة قويتين في الترافع أمام المحاكم والهيئات التأديبية، وتحرير عيون المقالات والمذكرات، ومن نضالات مشهودة لهم في مختلف المحافل الدولية والوطنية ( برلمان وحكومة ) دفاعا عن قضايا المغرب، وعن قضايا الحريات وحقوق الإنسان، وعن قضايا الشعب المجتمعية والاقتصادية والثقافية والصحية وغيرها. -أن البراهين التي يسوقونها لتبرير هذه الوقفات والاحتجاجات ، براهين ضعيفة لا تصمد أمام قوة الدليل العقلي والمنطقي .و هكذا : فإن محاولتهم تبرير هذه الوقفات والاحتجاجات ، بأن فرض إجبارية الاستظهار بجواز التلقيح من أجل ولوج المحامين والقضاة وكتاب الضبط والمرتفقين إلى المحاكم، إجراء غير دستوري وغير قانوني ، تبرير يفنده : أولا : أنك لو بحت في الأمر لوجدت أن أكثر هؤلاء المحامين المحتجين و لربما 80% منهم كما نسب إلى السيد وزير العدل ذكره، ملقحون وربما باللقاح الثالث، ويتوفرون على جوازات للتلقيح الصحي. ومع ذلك يحتجون ضد إجراء الاستظهار بهذا الجواز وأين؟ فقط أمام المحاكم ومقر المجلس الأعلى للسلطة القضائية دون باقي الإدارات الأخرى التي تطبق عليهم نفس الإجراء كالمحافظات العقارية وغيرها. مما يدفع المتتبع للشأن المهني إلى الاستغراب. ومن تم إلى التساؤل عن سبب هذا التمييز في رد الفعل . ثانيا : أن هذا الإجراء الاحترازي للحفاظ على الصحة العامة ، ليس فقط إجراء قانونيا ودستوريا، وإنما هو إجراء تفرضه وتوجبه الأوفاق والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان والمواطن على الدول ليس فقط تجاه مواطنيها ، بل وكذلك تجاه مواطني باقي الدول الأخرى ، بما هو تعبير عن شكل من أشكال التعاون الأممي بين الدول لمحاربة الآفات ، ولمواجهة الأوبئة والجوائح . هذه الأوفاق والمواثيق التي تفرض من بين ما تفرضه على كافة الدول التزاما كونيا اساسيا وجوهريا تجاه الإنسان والمواطن، هو حقه في حماية حياته. و هذا الحق في الحياة، كما هو معلوم، يوجب على الدولة أن توفر لمواطنيها وتضمن لهم الأمن العام، وذلك بالتصدي لمرتكبي الجرائم ومعاقبتهم لتصون بذلك حياتهم وتحفظ حرياتهم وأعراضهم وأموالهم، وأن توفر وتضمن لهم الأمن الغذائي، وذلك بتوفير الغذاء الكافي لهم ومحاربة المجاعات. وأن توفر لهم كذلك الأمن الصحي؛ وذلك بأن تبذل كل ما في وسعها ولو بمساعدة المنتظم الدولي من أجل وقايتهم من الأوبئة والجوائح . ومن هنا لم يكن هذا التدبير الاحترازي ترفا أو أمرا كماليا بالنسبة إلى الدول ، وإنما كان التزاما واجبا على الدولة تسأل عنه إذا لم تقم به وتوفره وتضمنه . وثالثا: أنه لما كان من المسلمات البدهية في الدستور أن من مهام السلطات العمومية السهر على تطبيق القوانين وإخراجها إلى حيز التطبيق على الواقع، فإنه لا يمكن توجيه اللوم إلى رئاسة الحكومة إذا هي سنت مرسوما بقانون تحت رقم 2.20.292 بتاريخ 23 مارس 2020 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، أو إذا هي قامت بسن مرسوم تحت رقم : 2.20.293 بنفس التاريخ بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر ارجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كوفيد 19 ، أو أن هي مددتها بمراسيم لاحقة، أو اتخذت في نطاقها وتطبيقا لها مقررات تنظيمية وإدارية او مناشير أو بلاغات من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم . أوالسلطة القضائية إذا هي عملت على تطبيق مقتضيات المرسوم سالف الذكر والقرارات التنظيمية الصادرة تطبيقا له . فإن ذلك مما يسمح لهم به المرسوم الملكي رقم 554.65 بتاريخ : 26 يونيه 1967 بمثابة قانون يتعلق بوجوب التصريح ببعض الأمراض واتخاذ تدابير وقائية للقضاء عليها ، وتوجبه عليهم المادة 3 من المرسوم بقانون رقم 2.20.292 بتاريخ : 23 مارس 2020 ؛ ونصها :" على الرغم من جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، تقوم الحكومة ، خلال فترة إعلان حالة الطوارئ، باتخاذ جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة. وذلك بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات. من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض، وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم "، وتفرضه عليهم المادة 3 من المرسوم رقم : 2.20.293 ؛ ونصها: "عملا بأحكام المادة الثانية أعلاه ، يتخذ ولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم، بموجب الصلاحيات المخولة لهم طبقا للنصوص التشريعية و التنظيمية ، جميع التدابير التنفيذية التي يستلزمها حفظ النظام العام الصحي في ظل حالة الطوارئ المعلنة ، سواء كانت هذه التدابير ذات طابع توقعي أو وقائي أو حمائي، أو كانت ترمي إلى فرض أمر بحجر صحي اختياري أو إجباري، أو فرض قيود مؤقتة على إقامة الأشخاص بمساكنهم ، أو الحد من تنقلاتهم ، أو منع تجمعهم ، أو إغلاق المحلات المفتوحة للعموم ، أو إقرار أي تدبير أخر من تدابير الشرطة الادارية " . ولا يمكن أن يقبل من أصحاب الوقفات والمحتجين الاعتراض على ذلك ، بقولهم إنهم لا يعترضون على تطبيق هذه النصوص القانونية ، وإنما هم يعترضون فقط على إجبارية التلقيح التي فرضت عليهم في خرق لهذه القوانين . أو بأنهم لا يوافقون على الدورية الثلاثية الموقعة من قبل السيد محمد عبد النباوي بصفته الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، والسيد الحسن الداكي رئيس النيابة العامة ، والسيد عبد اللطيف وهبي وزير العدل . فإن هذا الاعتراض: مردود عليهم في شقه الأول : بأنه إجراء فرضته المقررات التنظيمية والبلاغات الصادرة عن السلطات العمومية في نطاق الاختصاصات والصلاحيات المخولة لها في اتخاذ تدابير احترازية بواسطة الأليات المبينة أعلاه، أولا، من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم . وثانيا ، من أجل حفظ النظام العام الصحي في ظل حالة الطوارئ المعلنة ، سواء كانت هذه التدابير ذات طابع توقعي أو وقائي أو حمائي ، أو كانت ترمي إلى فرض أمر بحجر صحي اختياري أو إجباري ، أو فرض قيود مؤقتة على إقامة الأشخاص بمساكنهم ، أو الحد من تنقلاتهم ، أو منع تجمعهم ، أو إغلاق المحلات المفتوحة للعموم ، أو إقرار أي تدبير أخر من تدابير الشرطة الادارية " . ولذلك لا يمكن القول بأن هذا التدبير ، وهو تنظيم الولوج إلى المحاكم وباقي المرافق العمومية الأخرى كالمدارس والمستشفيات والملاعب وغيرها ، فرض خارج نطاق القانون . ومردود عليهم في شقه الثاني. بأن هذه الدورية لم تصدر عن هذه الجهات في نطاق المادة 3 من المرسوم رقم 2.20.292 أو في نطاق المادة 3 من المرسوم م 2.20.293 ، باعتبارها منشورا أو بلاغا موجها إلى العموم ، وإنما صدرت عن هذه الجهات في شكل دورية في إطار ما تتوفر عليه كل جهة من هذه الجهات من صلاحية لتدبير الشؤون الداخلية الخاصة بالفئات التي تنتمي إليها ؛ وهي على رأسها . وهذه الفئات هي القضاة بالنسبة إلى السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، وهي قضاة النيابة العامة بالنسبة إلى رئاسة النيابة العامة ، وهي كتابة الضبط والمحاكم بالنسبة إلى السيد وزير العدل . ولذلك فإن الرئاسة المنتدبة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، إذا ما تدخلت لتنظيم وتدبير عمل وشؤون القضاة ، أو رئاسة النيابة العامة إذا هي تدخلت لتنظيم وتدبير عمل وشؤون قضاة النيابة العامة ، ووزارة العدل إذا هي قامت بتنظيم وتدبير شؤون عمل كتاب الضبط بواسطة دوريات داخلية أو مناشير ، فإنه لا يكون من حق أي أحد أن يحشر نفسه في هذه المسائل الداخلية الخاصة التي تدخل في صميم اختصاصات وصلاحيات هذه الجهات ، وإلا اعتبر ذلك منه مسا باستقلالها وحريتها . هو أمر لا يسمح له به القانون ولا يجيزه ، بل هو يزجره ويعاقب عليه . وكذلك يصدق الأمر على تعللهم الثاني بأن فرض الإدلاء بالجواز الصحي من أجل الولوج إلى المحاكم ينطوي على تمييز عنصري بين المواطنين . وهو أمر غير مسموح به قانونا . فإن هذا التبرير كسابقه ، ينطوي على مغالطة لا تخفى عند التعمق في النظر . ذلك بأنه صحيح أن في فرض الجواز الصحي تمييزا بين المتوفرين عليه وغير المتوفرين عليه ، ولكن ليس صحيحا أنه تمييز عنصري مخالف للقانون . وذلك لأن هذا التمييز تدبير تقتضيه طبائع الأمور والأشياء . كما هو الحال مثلا بالنسبة إلى سياقة العربات ذات محرك ، و بالنسبة إلى السفر إلى الخارج ، فإنه لا أحد يمكنه أن يجادل في أن فرض الحصول على جواز السياقة بالنسبة إلى الحالة الأولى ، أو على جواز السفر بالنسبة إلى الحالة الثانية ، فيه تمييز بن الحاصلين على جواز السياقة وعلى جواز السفر عن غيرهم . فإن القانون عندما يقرر ضرورة الحصول على وثيقة معينة أو على جواز معين ، فإنه لا يكون في ذلك ممارسا للتمييز العنصري بين من يتوفر عليها ومن لا يتوفر عليها . فإن القانون وقواعده عامة ومجردة كما تعلمنا ذلك في سنين دراستنا القانونية الأولى ، عندما يأمر بشيء ، أو ينهى عنه ، فإن الواجب يفرض على الجميع الامتثال له و الانضباط إليه تحت طائلة إجبار الدولة له بالقوة على ذلك بما تملكه من سلطان ، دون أن يتخذ ذريعة له في عدم الامتثال والانضباط أن هذا القانون ينطوي على تمييز عنصري بين المواطنين . وهكذا يبين مما تقدم، تهافت كافة المبررات والذرائع التي يسوقها المحتجون بالأصوات المرتفعة المبحوحة خلال وقفاتهم ، أو في وسائل التواصل الاجتماعي بواسطة تدويناتهم، مستغلين هامش الحرية المعطى لهم للتعبير عن " مواقفهم " بواسطة هذه المنابر . وهو الأمر غير المتاح لمن يسمونهم " خصومهم " الذين يجدون أنفسهم بسبب واجب التحفظ الذي تفرضه عليهم مواقعهم ، غير مستطيعين الرد على ما يكيلونه لهم من تجريحات وما يوجهونه إليهم من مطاعن . ولعل ما يؤيد هذا التهافت ، أنك لا تلحظ أن غير هؤلاء المحامين يقومون بهذه الوقفات والاحتجاجات بالشارع العام أمام باقي المرافق العامة، أو أمام أبواب مقرات المسؤولين عنها. لا بل إنك لا تلحظ، كما تقدم القول، أن المحامين أنفسهم يقومون بهذه الوقفات والاحتجاجات أمام الإدارات الأخرى التي تفرض عليهم نفس الإجراء كالمحافظات العقارية وغيرها . وذلك رغم أن ما ينطبق على الولوج إلى المحاكم ينطبق على هذه المرافق . لا بل إنك لا تلحظ أن غير هؤلاء المحامين ممن يعنيهم أمر الدورية كالقضاة وباقي مساعديهم يقومون بهذه الوقفات والاحتجاجات ضد الدورية الثلاثية . وذلك بالرغم من أنهم هم المعنيون بها أولا . وفي الحق، أن هذا النوع من أنواع السلوك، الذي لجأ إليه بعض المحامين المتمثل في الوقفات بالعراء بالشارع العام ، قدام العموم، وأمام الحواجز المنصوبة من قبل رجال الأمن، وهم مرتدون بذلهم، لا يمكن أن ينجم عنه لا بالنسبة إلى المهنة، ولا بالنسبة إلى المحامين أي مكسب ، ولا يمكن أن يجر عليها وعليهم أي مغنم . ولكنه خلافا لذلك يمكن أن يجلب لهم عدة مضار ، أقلها : أن ما بقي لهم وللمهنة في أعين الناس ، من هيبة واحترام و وقار سيصير إلى زوال إن آجلا أو عاجلا . أنه من الممكن أن يتعرضوا إلى المساءلة المدنية بواسطة شكاوى جنحية أو دعاوى قضائية أو شكاوى مهنية من قبل موكليهم بسبب التفريط في الدفاع عن مصالحهم وحقوقهم ، وإهمالهم القيام بواجباتهم المهنية تجاههم ، وخصوصا إذا خسروا دعاواهم بسبب التخلف عن الحضور إلى الجلسات ، أو عن الإدلاء بالمذكرات والحجج قبل إدراج قضاياهم بالتأمل أو بالمداولة كما شهدنا ذلك في الآونة الأخيرة واعتدنا عليه في أخر كل سنة لزيادة القضاة في رصيدهم المهني عن طريق كثرة ما يصدرونه من أحكام وقرارات ، أو عن التصريح بالطعون أو الأداء عنها داخل الإبان القانوني . وأنتم تعلمون مقدار ما يكنه الزبناء والموكلون لمحاميهم من محبة ، كما تدل على ذلك الشكايات الكثيرة التي يرفعونها عليهم ، وطلبات تحديد أو تقدير الأتعاب التي يرفعها المحامون ضدهم . وعندئذ لا يمكن أن ينفعهم التعلل بأنهم كانوا يحتجون على الدورية أو على إجبارية التلقيح . فإن ذلك لا يعني الموكل الذي يغلب مصلحته الخاصة على أية مصلحة أخرى ، ولا يعني القضاء بسبب أن الوقفات والاحتجاجات ما كانت ولن تكون في أي يوم من الأيام سببا من الأسباب المعفية لأصحابها من المسؤولية . وحبذا لو أن هؤلاء الزملاء غلبوا جانب الحكمة والعقل ، وتركوا السلطات العمومية تقوم بمهامها حفاظا على صحتنا و سلامتنا و حياتنا من هذه الجائحة التي ما يكاد يقضى فيها على فيروس حتى يظهر منه متحور جديد أكثر انتشارا وربما أكثر فتكا . ولنا في البلاغات الأخيرة عن نسبة انتشار متحور أو ميكرون أكبر آية ودليل على ذلك . ولنا في هذا الصدد اقتراح نعتبره أفيد من أجل الخروج من هذه الأزمة ، وهو أن تتولى الهيئات إعداد لوائح بأسماء المحامين الملقحين والإدلاء بها لمن يجب ، مثلما حصل مع القضاة وكتاب الضبط ، حتى نتجنب مطالبة المحامي في كل مرة يريد الولوج فيها إلى محكمة من المحاكم بالإدلاء بجواز التلقيح . وسنكون بذلك قد أرحنا جمعيتنا وهيئاتنا وأنفسنا من كل هذه الوقفات والاحتجاجات التي لا مبرر لها ، ولا تجد نصيرا ومدافعا عنها إلا عند من يلجأ إليها فقط من أجل الاحتجاج ورد الفعل ، أو ليثبت لمن يهمه الأمر في نظره أنه ما يزال حاضرا بالساحة . وبعد ، فهذه باختصار ملاحظات وآراء عنت لي بمناسبة هذه الوقفات والاحتجاجات غير المبررة ، ارتأيت أن ألفت بها انتباه الزملاء إلى ما تشكله من خطر علينا وعلى المهنة . في وقت لم يعد يحترمنا فيه أحد ، أو يعطينا أي اعتبار . ولعل عدم إشراكنا في اتخاذ بعض القرارات التي تهمنا ، الذي أصبح عادة مألوفة لدينا ، أن يكون أكبر آية وبرهان على ذلك . أنسانا أيام العز التي كنا نرفل فيه ، مثلما أنسانا المرتبة التي كانت جمعية هيئات المحامين بالمغرب رغم أنها مجرد جمعية تخضع لأحكام قانون الحريات العامة لسنة 1958 ، تحتلها ، حتى تم إشراكها في عدد من المجالس الدستورية باعتبارها عضوا فيه كما هو الشأن مثلا بالنسبة إلى المجلس الأعلى لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للصحافة وغيرهما .