عندما شدت أم كلثوم: هَل رَأى الحبُ سُكَارَى مِثَلنَا **** كَم بَنَيْنَا مِن خَيَّال حَولنا سأل الزوج الغاضب زوجته: هل حَقًّا حصل بينك وبين الشاعر ما يقوله؟ ضحكت في وجهه وصحبته إلى عيادة الطبيب الشاعر إبراهيم ناجي، انفرجت أسارير وجهه لمّا رآه: فلا شكله ولا بنيته الصحية ولا حالته المرضية تُبرِّرُ أن تكون ثمة علاقة ما بين طبيب يُضِيف إلى ورقة الدواء مَقَاطِعَ شِعْرية تتغزل في زبونة حسناء !! وقد غضب الشاعر كامل الشناوي لمّا رأى رفيقة الخيال في وضع مثير فكتب إليها: مَاَذا أَقُولُ لأَدْمُع سَفَحَتْهَا أشواقي إليكِ مَاذا أقول لأَضْلُعَ مَزَّقْتُهَا خَوفًا عَلَيكِ لم تكن فاتنة «الأطلال» تُحبُّ إبراهيم، ولا كذب أحدٌ على كَاِمل، فإن فشلا معا في استمالة قلبين، فقد نجحا على مرَّ الزمن في اختراق عقول وأفئدة الناس بِرَائِعتَيهما !! أمّا العقاد فقد ظل يُباهي بغرامياته شعرًا ونثراً، فلّما سألوا الفنانة مديحة يُسْري في الموضوع قالت: أهداني كتبه فلم أفهم منها شيئا، له لسان وقلم يفعل بهما ما يشاء، ليس لِزامًا عَلى أن أُجيبَهُ لِما يَظُن !! أسس هذا الكلام الجميل في نفوسنا لبنة الإحساس السامي النبيل، فتداعت جُدْرَانُ العقل على غزوات الوجدان، ولم يكن غريبا أن نَقْلَقَ ونَأرق ونَفْزَعَ ونبكي عندما تشدو الألسن بأحلى الكلام، ليس ضروريا أن ترتبط تلك الأحاسيس بكائن ما. وقد ظَلَّ صديق لنا يسقط على من كَلِفَ بها كل المعاني الجميلة المبثوثة في الأغاني والقصص والروايات، ولم يكن صاحبنا سوى محبا صادقا لأحاسيسه، بِلَوْعَتِهَا سُهَادًا وَأرَقاً وَحَنِيناً وفَرَحَتِهَا وصلا ومناجاة. ولم تكن هي بتلك المواصفات ولا علاقة لها مطلقا بما أسبغ عليها خِلْقَةً وَخُلُقًا !! كان لابد من استعمال أَحاسيس خَام، فإذا لم يكتب للآخر وُجُودًا في حياتنا، صَنَعنَاهُ من مَعِين الخيال وأثَّثْنَا فَضَاءَهُ. في زماننا، كان للحياء والخجل حُمْرَة بالوجنتين، وللكلمات ارْتِعَاشَاتٌ بالشفاه، وللأرق ليالي بَيْضَاء، وللَعَرقٍ جَبين، ولِلوَجِيبِ فؤاد. وكم شكرنا ساعي البريد على أغلفة الرسائل، واقْتَفَيْنَا أثره بين الحارات ليزف لنا شَهْدَ المعاني. مرة كَتَبْتُ رِسَالة وَجَلَسْتُ أنتظر الجواب، ولم يَطُل انتظاري، وعجبت كيف اسْتَعْمَلت المُرْسَل إليها نفس كلماتي، وكنت قد وَضَعت عنوان المُرْسِل مكان عنوان المُرْسَلِ إليه، فإذا بِي أقرأ كلماتي !! هل لازال لكل هذا مَحَلٌ في زماننا؟ الرسائل والصور تقتحم الهواتف ولو كانت مقفلة، فمن أين يأتي الهجر والشوق والغياب والحنين؟ لقد ظل الشاعر أحمد رامي ينتظر طويلا كي تفتح نافذة مَنْ يَهْوى، فَلَمَّا يَئِسَ تَغَزَّلَ في القُلَّة الموضوعة عَلى شرْفَتِها !! وهو الذي ظلت أم كلثوم مُتَمَنِّعَةً تنكأ جروحه كي تُلهِبَ كَلِماته فيتغنى بِمَعَانِيهَا العاشقون. في حضرة هذا الجمال، شبَّ الهوى بالأفئدة يافعا، وَخَلُدَت حكاية أول نظرة وأَوَّلَ دمعة وأول حرف وأول لقاء وأول..وأول في أرْواحنا مَا خَلُدَتِ الحَيَاةْ، فلازالت رؤوسنا تُطْرِق، وُعيونُنا تُحَلِّقُ بَعيدا عِند لِقَاء عابر، ولازالت الدُّور «اللِي هنَاكْ» شَاهِقَة في بَحْرِ الذكريات !! أحَبَّ إبراهيم ناجي الأطلال، ولامَ كامل الشناوي الأشباح، ويئس أحمد رامي من أم كلثوم، وغالى العقَاد، فاندلعت الحرائق وتَفَجَّرتْ ينابيع الهوى !! قَد يخذل الزَّمن آصِرَة الوصال، قد يُكْتب لنا طول العمر أو نموت، لَكِنْ هيهات تَنْسَى طُيْورُ القَلب أعشاشها، فَغدًا أو بَعْد غَدٍ نقف مثلما وقف أحمد رامي راثيا أم كلثوم وهو يَبْكي: مَا جَالَ فِي خَاطِري أَنِّي سَأرثِيهَا **** بَعْد الذَّي صُغْتُ مِنْ أشْجَى أَغَانِيهَا قَدْ كُنْتُ أسْمعُها تَشْدُو فَتُطْربني**** وَاليَوْمَ أَسْمَعُني أبْكِي وَأبكِيهَا صَحِبْتُهَا فِي ضُحَى عُمْرِي وَعِشْتُ لَهَا**** أَزُفَّ شَهْدَ المَعاني ثُم أُهْدِيهَا وَمَا ظَنَنْتُ وَأَحْلامِي تُسَامِرُنِي**** أنّي سَأَسْهَر فِي ذِكْرى لَيَاليِهَا