كنت وقفت إبّان إقامتي في بعض الجامعات الفرنسية على وثيقة مكتوبة لصديق متخصص في الشأن الإفريقي، وردت فيها مقولة للرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سنغور الشاعر والفيلسوف، صاحب نظرية الزنوج في الأدب الأفريقي. يقول سنغور في الوثيقة لضيفه السوداني " كان بمقدوركم أن تكونوا خيار العرب وأفضل الأفارقة لكنكم أبيتم كلتا الخيارين." طبعا، من الناحية الشخصية، فأنا أختلف مع الرئيس سنغور في هذ ا التهجم على إخواننا السودانيين. فالسودانيون أكثر القوم كرما وجودا، أينما حلوا أو ارتحلوا، سواء تعربوا أم تأفرقوا. زد على ذلك أن سنغور كان شاعرا موهوبا ومعروفا بهوايته في اختيار الكلمات. على كل، لكل مقال مقام، فالرئيس سنغور كان يتحدث عقب رفضه لأطروحات الرئيس جعفر النميري في بدايات سبعينيات القرن الماضي عقب استيلائه على مقاليد الحكم في السودان، وأعلن الاتحاد الاشتراكي، متسربلا بشعارات الزعيم الليبي معمر القذافي الجوفاء، ومنذرا الجنوبيين بحرب جوفاء ان لم يذعنوا لتعليماته وأطروحاته لوقف الحرب الدائرة منذ استقلال البلاد. حكم العسكري النميري السودان لما يزيد على عقد ونصف من الزمان أنهى خلالها أُسس التجربة الديموقراطية الثانية في البلاد كما ضيع خلال حكمه ما تبقى من نظام الدولة الديموقراطية التي أرادها الزعيم إسماعيل الأزهري قبل أن يطيح به وديموقراطيته العسكري إبراهيم العبود. تاه النميري خلال حكمه شرقا وغربا معتنقا أيديولوجيات متناقضة حسب المعسكرات الدولية التي كانت جاهزة لتمويل مشروعه التحكمي الديكتاتوري في السودان. وحين نفذت ذخيرته السياسية دوليا وداخليا أعلن مشروعا إسلاميا وتحالف مع رواد الحركة الإسلامية في السودان، لينتهي به الأمر من حيث بدأت رحلته: تدخل العسكر بقيادة عبد الرحمن سوار الذهب باسم "حماية الدولة وحفظ الأمن وسلامة المواطنين". يعتبر الرئيس النميري الأب الحقيقي لسودان العسكر إذ أصبح مضرب الأمثال لفشل دولة مابعد الاستقلال في إفريقيا وعدم قدرة الأفارقة على التكيف مع إرث الاستعمار في أعلى تجلياته وهي الدولة القومية. عندما نشر الكاتب البريطاني باسيل دافيدسون (Basil Davidson) كتابه الصادم، عبء الرجل الأسود: أفريقيا ولعنة الدولة القومية عام 1992، و الذي ادعى فيه أن أوضاع الأفارقة في كل نواحي الحياة كانت أحسن بالأمس الاستعماري من اليوم تحت الحكم الوطني، أشار المؤيدون إلى نموذج دولة النميري وسودان العسكر كدليل نافذ يصعب تفنيده. لم يكن حكم الجنرال عمر حسن أحمد البشير الذي دام لثلاثة عقود بأحسن من سابقيه، بل ضاعف معاناة السودانيين بتهجير العلماء وتقتيل الأبرياء وتنقيص مساحة البلاد. بلغ سودان العسكر أوجه في زمن البشير: انهيار مؤسسات الدولة وتشرذم الناس الى فئات إثنية ودينية وجهادية. أذكر أن عالما أنتربلوجيا أوروبيا ذكر في بعض المداخلات الأكاديمية الدولية، أن فشل السودان تحت حكم البشير ينذر بما يمكن أن يكون في المستقبل حين تفشل النظم الديموقراطية. في الحقيقة، "فاقد الشيء لا يعطيه" لم يكن في خلفية الرجل ما يؤهله للنجاح في حكم البلاد وفهم ضروريات المفارقة بين الاختلاف الذي هو أهم ميزة في العمل السياسي ومسألة الأمن الذي جبل العسكر على تخيل الحياة حولها. كان الفيلسوف جيمس ماديسون، وهو في الحقيقة أبو الأفكار التي عليها بني الدستور الأمريكي، ينفر من مسألة الأمن ويتوجس منها خوفا على النظام الديمقراطي الوليد في أمريكا. لذلك كرس أعماله في أوراق الفدرالية على تفكيك مقومات المسألة الأمنية في الدولة الأمريكية الوليدة، مصرا على تغييب وضع الجيش في هرم السلطات الحاكمة، ووضع منصب القائد الأعلى للجيش تحت إمرة رئيس مدني منتخب مع الفصل بين السلطات الى درجة إخضاع الفرع التنفيذي )الرئيس الذي يتفرد بحق إعلان الحرب والطوارئ( لفرعيْ التشريع والقضاء. أفكار ماديسون عن ضرورة تحرير ماكينة الدولة عن الأغراض الشخصية والأمنية المؤسساتية هي التي حدت بالفيلسوف هنري ديفيد ثورو إلى الاعلان في مقاله الشهير عام 1849 عن العصيان المدني بأن "أكثر الحكومات منفعة للناس أقلها تحكما في شؤونهم." كان الرئيس البشير مولعا بهراء المسألة الأمنية في السودان، تبنى حماية أمن "العباد" في خطاب الانقلاب ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة عام 1989، وتبنى البشير حماية هيبة الدولة في صراعه مع الشيخ حسن الترابي على الحكم في بدايات 2000، واستخدم المسألة الأمنية في حروبه ضد أهل دارفور، وادعى حماية أمن الشمال في وجه موافقته على استفتاء الجنوبيين للاستقلال. وادعى دوافع حماية "الأمن الثقافي" للسودان حين قرر قطع علاقاته بإيران بعد منع مراكز الشيعة الثقافية في البلاد. أتذكر أن بعض الباحثين الأمريكيين المهتمين بالشأن السوداني قضى وقتا باحثا عن مفهوم "الأمن الثقافي" في الكتب، فلما سألني قلت له "لا محل له من الإعراب،" وأن هذا النمط من الاستخفاف بعواطفنا هو دأب الدكتاتوريين يسنون سننا وهمية لتبرير مالا مبرر له في القرار السياسي. فلا أمن في الثقافات، لأنها متشابكة وبطبيعتها متنقلة بين الافراد والجماعات والشعوب وعبر البلاد. ومثل هذا سمعته من شخص ثقة، قال إنه سمع ممن كان حاضرا يوم عزل البشير بواسطة زمرة من زملائه العسكريين الذين جاؤوا ليخبروه بالخبر تلبية للمطالب الشعبية عام 2019 أن البشير حاول مجادلتهم بمستوجبات أمن مشروعه الحضاري، و لما يئس من إقناعهم أوصاهم "بالشريعة خيرا." سودان العسكر يرمز إلى واقع مؤسف لدولة السودان التي استأثر حكم العسكر بمجموع (55) سنة من مجموع (65)سنة من عمر البلاد منذ استقلالها عام 1956. مع سوء الحظ، فإن الدولة الإفريقية التي شهدت أكبر عدد من الإنقلابات العسكرية منذ الإستقلال هي دولة السودان )سبعة عشر محاولة انقلابية خمسة منها ناجحة(. وتجدر الإشارة الى أن دولة بوركينا فاسو تاتي في المرتبة الثانية بعد السودان. وحسب دراسة الباحثين جواناثان باول وكلايتون ثين فقد حدث مائتا انقلاب عسكري في العالم منذ عام 1950، ووقع نصفها في إفريقيا. والملاحظ أن ظاهرة الانقلابات العسكرية تقلصت عالميا في الآونة الأخيرة منذ عام 2017، من مجموع (11) انقلاب منذ ذلك العام، كلها حدثت في أفريقيا عدا انقلاب واحد في دولة ميانمار، وباقي الانقلابات كان مرتعها القارة الإفريقية، ومع التطورات الحالية في السودان، يصح القول أنّ غالبية الانقلابات العسكرية في القارة منذ عام 2017 أيضا حدثت في السودان أولا وفي دولة مالي في غرب إفريقيا ثانيا. موضوع عسكر السودان وسودان العسكر يعبر عن العلاقة العضوية بين جزأيْ التركيب. الحقيقة الأولى فرضت الظاهرة الثانية وهي ليست مثالية في سياسة الدول وحياة الشعوب. لأن حكم الدولة الديموقراطية يجب أن يكون من اختصاص المدنيين، ومن العرف السياسي الديموقراطي أن يخضع العسكر للمدنيين، لأن الأصل في العمران السلم وليس الحرب، ومن الحكمة الإنسانية أن يتولى أمورنا أهل السلم وليس أهل الحرب، وعلى هذا قامت نظرية العلاقات بين الدول منذ كتاب أب العلاقات الدولية، إمريش دي فاتيل. وان كنت أختلف مع لسان سنغور الشاعر الأديب، فقد أتفق مع أفكار سنغور الرئيس السياسي. لم يكن سنغور شاعرا فحسب، بل كان رئيسا ناجحا أرسى أسس الدولة الديمقراطية في السنغال، وتخلى عن السلطة طواعيا لأول مرة في تاريخ المنطقة، وبقي بلده الدولة الثانية الوحيدة في إفريقيا بدون انقلاب أو قيادة عسكرية. كان الرئيس سنغور معروفا بتوجسه من المؤسسة العسكرية في إفريقيا، لأن وجود كيانهم كان لضمان أمن المستعمر الأوروبي، فباختفاء المستعمر تبقى مسألة الأمن مجرد وهم ينتحله من شاء ومتى شاء من أجل الوصول الى السلطة. فقد كان محقا في خيبة أمله مع عسكر السودان. ومثله في ذلك مثل الكثيرين من رواد الرابطة الإفريقية الأوائل الذين كانوا يؤمنون بأن على دول معينة في القارة أن تنهض أولا لتتبعها الدول الأخرى الأقل قدرة على ذلك. وكان من ضمن دول القيادة هذه السودان الموهوب بمساحته وموقعه وثرواته. لكن هذا السودان المرشح للقيادة لن ينهض مع وجود ظاهرة سودان العسكر. حان للسودان أن يتحرر من حُكم العسكر وينسجم مع شعارات السودانيين الداعية للحرية والسلام والعدالة. فرحلة الدولة الديمقراطية تمر عبر دروب وعرة، لكن التجربة، وبكل شواهد التاريخ، أكثر ضمانا لوصول الشعوب الى بر التراضي الاجتماعي والازدهار الاقتصادي العادل.