كم مرة سنعد ساعات جوعهم؟ وكم مرة سنعد ما بقي في الأمل من أمل؟ كم مرة سيحاصرنا الخوف من أن تكون نهاية أحدهم وهو مضرب عن الطعام، يخوض سلوكا احتجاجيا بخلايا بدنه؟ كم مرة سيناشد المناشدون ويصرخ الصارخون وتبكي الأمهات الوجع مرتين؛ وجع فقدان الحرية والخوف من فقدان حتى الحياة؟ وكم مرة سنطرح الأسئلة ذاتها! حينما يصير الجسد أداة للاحتجاج، فاعلم أن الشعور بالغبن قد غلب حتى غاص اليأس في النفوس، وأن الإنصاف والحياة صارا سيان. بحثت عن الدوافع النفسية وراء خوض الإضرابات عن الطعام وعن أضراره الصحية والنفسية على من يخوضونه، فكانت النتيجة مخيفة، تماما كما هي الصورة التي ترتسم في الذهن وأنت تتخيل شخصا في زنزانة يعرض عن الأكل ويتآكل جسده الذي يصير غذاء ذاتيا لنفسه، جاعلا من جسده ساحة احتجاج، آملا في أن يصل صداها إلى ما هو أبعد من جدران زنزانته. أما إن كان المضرب مريضا بمرض مزمن، كالضغط أو السكري أو داء القلب، فإن درجة الخطر ترتفع لتصل إلى احتمال الموت في أي يوم من أيام الإضراب، وإن كان في بدايته. ولم يخل تاريخ المغرب من معتقلين ماتوا وهم يحتجون بأجسادهم على ظروفهم السجنية، أو على ظروف محاكمتهم، ولا داعي للنبش في تاريخ السبعينيات ولا الثمانينيات، فحتى في الماضي القريب هناك حكايات. مرة أخرى يطفو ملف معتقلي حراك الريف بإعلان إضراب مفتوح عن الطعام، بما يعنيه من ثقل على كل ضمير إنساني، في أي موقع كان، إعلامي أو حقوقي أو سياسي أو مواطناتي. بدأت القصة مجددا بحديث عن إضراب مدة يومين، أُعلِن في بيان مشترك ذكر أنه يهم معتقلي حراك الريف، وعددهم ستة بسجن طنجة2، وصحافيين بسجن عكاشة بالدار البيضاء، هما سليمان الريسوني وعمر الراضي، ومؤرخا بسجن آخر في العرجات، وهو المعطي منجب، ليقفز فيما بعد خبر من عائلات معتقلي الحراك؛ أن هناك منعا من الهاتف عن معتقلي الحراك، وأن هناك إضرابا عن الطعام قيل إنه مفتوح، وتشتيت للرفاق الستة على سجون مختلفة، وعائلات تنتظر اتصالات هاتفية من أبنائها لتعلم مكان سجن فلذات أكبادها، ومنهم من علم، ومنهم من ينتظر من يزوده بالخبر. وتوالت التدوينات والأخبار، وبدأت الحكاية من جديد. قبل تجميعهم في سجن طنجة2، كان عدد من معتقلي الحراك قد خاضوا إضرابا عن الطعام، وانتهت المأساة بتجميعهم في مجموعات بسجون قريبة من ذويهم، وخرج منهم من خرج بعفو ملكي، وظل الباقون ينتظرون طي صفحة ملف تجاوز الأربع سنوات ببضعة أشهر منذ اندلاع شرارة الحركة الاحتجاجية التي ألهبت الريف مدة شهور، بعدما انطلقت في متم أكتوبر 2016، بعد مقتل محسن فكري، بائع السمك، في شاحنة لكبس النفايات. أربع سنوات سال فيها مداد كثير، ولم يُمح فيها أثر هذه القضية من الإعلام طيلة هذه المدة، وقيل الكثير حول هذا الملف في المغرب وخارجه وبألسن عدة، وعن الإضرابات عن الطعام الكثيرة، التي، وإن انتهت بسلام، يبقى احتمال عودتها مفتوحا، مادام جرح الاعتقال مفتوحا. كلما مر الزمن، صار هذا الجرح وشما يتعدى أثره أجساد الأفراد المسجونين إلى جيل آخر يتابع الحكاية، منذ أربع سنوات، في الإعلام، ومن خلال دموع الأمهات وأحاديث الجيران. من غادر في المراكب غادر، ومن خرج من السجن هو الآخر امتطى الموج إلى الضفة الأخرى، وماذا بعد كل هذا الرحيل؟ ماذا عن الجيل اليافع الذي صارت هذه الحكاية جزءا من تكوينه النفسي الذي عايشه، ومخيلة طفولة تنمو بين هذه الحكايات؟ هل هم مشاريع رحيل آخر هم الآخرون؟ وهل سيمحو الرحيل هذا الجرح من الذاكرة؟ هل سيمحو أثرها من على أجساد من أضربوا عن الطعام ونجوا من شبح الموت مرات ومرات؟ وهل سيمحوه من ذاكرة منطقة لم تشف بعد من آثار ما مضى؟ لماذا تقرر فجأة ترحيلهم والقيام بعملية تشتيت بعدما كان التجميع؟ طلع البيان من المندوبية العامة لإدارة السجون، وقال إن السبب خرج من سماعة الهاتف، فهؤلاء السجناء لا يتحدثون في أمور عائلية وفقط حين يستفيدون من خدمة الهاتف. هكذا قيل، وماذا يقولون؟ لا ندري ماذا سمع السامعون، لكن هل ناصر الزفزافي، أو نبيل أحمجيق، أو بقية المجموعة، غاب عن بالهم أن ما يقولونه قد يجلب عليهم ضررا؟ هل كان حديثا كالذي قيل إن حميد المهداوي لم يخبر عنه وخرج من السجن ولايزال لم يظهر أثر لبائع الدبابات بعد، وهو يواصل التساؤل بحرقة: لماذا أمضى ثلاث سنوات من العمر سجينا؟ مهما كان الحديث، هل بلغ مستوى من «الخطورة» لم ينجح معه سوى العقاب؟ والعقاب كلمة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بعدما سمع الكلام عن الإضراب المفتوح، وبعدما توالت تدوينات العائلات؛ شقيق نبيل أحمجيق يرثي أخاه حيا، وعائلات أخرى تخبر بأنها علمت أخيرا بمكان أبنائها وكأنهم كانوا مفقودين. لم يمر وقت طويل قبل أن تعرف العائلات مكان أبنائها، في نظر البعض، فهو مسافة الرحلة من مدينة إلى أخرى، ومن سجن إلى آخر، لكنها نسبية الزمن؛ هل يستوي الزمن لدى من ينتظر خبرا مطمئنا عن ابنه، وزمن من هو مستغرق في ما يمتعه؟ لا، لا يستويان، لأنه زمن نفسي، ولا يقتصر العقاب فقط على من رأت فيه المؤسسة «مخالفا»، بل يمتد أثره ليشمل مقربيه وذويه ومحيطه كاملا. حتى من يصرون على نزع صفة «معتقلين سياسيين» عن قضية معتقلي الحراك، ويصرون على القول إنها قضية «حق عام»، ومنهم رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في خرجات إعلامية لها، يقرون ضمنيا بعكس ما يقولون، فالمجلس ذاته، وهو يعقد جلسات مع بعض معتقلي الحراك الذين صدر في حقهم عفو فيما بعد، انخرط في نقاشات معهم (صيغت في ورقة تحدث عنها شاكر مخروطي باسم مجموعة من معتقلي الحراك المفرج عنهم في هذه الجريدة)، ضمت مواقف «الحراك من الوحدة الترابية للمملكة المغربية»، وموقفه من «المؤسسات المختلفة للدولة»، وموقفه من «العنف»، كما جاء في شهادة شاكر الذي أمضى ثلاث سنوات من مدة محكومية قدرها خمس سنوات، وكان ممن شملهم عفو ملكي في عيد العرش الأخير. لم نسمع يوما عن مخربين أو معتقلي حق عام نوقشت معهم مواقف سياسية لحركتهم الاحتجاجية التي اعتقلوا على خلفيتها لتمهيد انفراج في ملفهم، وإن كان أصحاب الورقة يقرون بأن المجلس لم يقدم لهم وعدا ما، لكن النقاش كان ل«حلحلة الوضع وتهييء شروط انفراج هذا الملف». إن لم يكن هذا السلوك يعني اعترافا ضمنيا بالطابع السياسي للملف، فماذا يكون؟ هذا النقاش، على كل حال، صار متجاوزا، ومن بداهات الأمور لدى جزء واسع ممن تابعوا المحاكمات والأحكام وقبلها أحداث الحراك. وحتى بعض الأحزاب السياسية، التي تتحدث بين الفينة والأخرى عن ضرورة خلق انفراج سياسي، لا تقفز على قضية معتقلي حراك الريف، ومنها من كان ضمن الأغلبية الحكومية التي أصدرت بلاغها الشهير، الذي رمى نشطاء الحراك بجريرة «الانفصال»، ومنها من كان في المعارضة منذ البدء، وهل يتحدث رئيس حزب سياسي عن الرغبة في ترشيح هؤلاء النشطاء في الانتخابات المقبلة إن كان يعتريه شك في خلفيات ملف اعتقالهم، أم إنها حمى الانتخابات؟ كما أنه يصور لهم عرضه على أنه «فرصة للتعبير عن رأيهم وممارسة المعارضة من داخل المؤسسات»، فهل كان عبد اللطيف وهبي سيدعو إلى ممارسة المعارضة والتعبير عن الرأي من لا رأي لهم؟ مهما كان السبب، فلا يجني العنب من زرع الشوك. توالت السنين، واقتربت الولاية الحكومية من النهاية، وكانت قد تخطت في بدايتها صفيح حراك الريف الساخن المندلع في خريف 2016، وهي تقترب الآن من النهاية، وقد جرت في سنواتها حراكات اجتماعية عديدة، من الريف إلى جرادة إلى زاكورة، لكن ملف حراك الريف ظل مفتوحا لأنه كان الأكبر في عدد المعتقلين وعدد سنوات الأحكام الثقيلة، ولايزال ظله يخيم على الاستحقاقات المقلبة، فبأي وجه سيقبلون على مدينة توشحت عائلات بها السواد في أيام أعياد، وبكت أسر صباحات عيد بلا دفء، وظل أبناؤها يرقبون تبدل أحوالهم، ليحظى العاطلون عن العمل بمناصب شغل تغنيهم عن مغامرات المراكب. فما الذي تغير في الريف؟ تغيرت ربما معطيات اقتصادية واجتماعية ووجوه في مناصب كانت تدبر الشأن المحلي والجهوي، لكن، مع استمرار ملف المعتقلين، «تغيرت الخواطر» كذلك، أي ما شابها من حزن وخيبة أمل واعتقالات أجهزت على أحلام المصالحة، وتدور الدورة وإرهاصات السحابة نفسها، التي أمطرت توترا واعتقالات، تخيم على سماء تماسينت، وهل يوقظ عاقل اللهب ذاته مرتين؟