أجمل ما ترك ترامب لشعوب العالم تعريته أمريكا من الداخل، وزرع حالة من اللايقين في مستقبل النموذج الذي تُمثله، أما أسوأ ما تركه لنا في منطقتنا، فهو دمج إسرائيل في المنظومة الأمنية العربية، بعدما تبيّن، منذ إعلان التطبيع بينها وبين عدد من الأنظمة العربية، أنها صارت حليفة وشريكة في الدفاع عن أمن تلك الأنظمة وبقائها، والأدهى من ذلك، أن تصبح قائدة للعرب في أكبر تحول دراماتيكي عرفته دول المنطقة، وذلك هو المغزى من قرار البنتاغون ضم إسرائيل إلى القيادة المركزية للجيش الأمريكي (سينتكوم). كيف ذلك؟ باتت عناصر المنظومة الأمنية معروفة لكل مواطن عربي، فهي تتشكل من السعودية والبحرين والإمارات ومصر والأردن والمغرب وإسرائيل، ولكي تكتمل الصياغة، جاء قرار وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، قبل رحيل ترامب بأيام قليلة، ضم إسرائيل إلى مسؤولية القيادة المركزية للجيش الأمريكي (سينتكوم) التي ترعى المصالح الاستراتيجية الأمريكية في دول الشرق الأوسط وبعض دول وسط آسيا، بعدما كانت إسرائيل لعقود ضمن مسؤولية القيادة الأوروبية للجيش الأمريكي. ومن النتائج المباشرة لهذا التغيير أن القيادة المركزية للجيش الأمريكي ستكون المسؤولة عن تنسيق السياسة العسكرية الأمريكية المتعلقة بالدول العربية وإسرائيل معا، وهو التغيير الذي لم يكن ممكنا حدوثه لولا عملية الدمج التي قام بها ترامب لإسرائيل وسط الدول العربية قبيل رحيله، دون أن تقدم إسرائيل أي شيء إلى حد الآن، لا للدول المُطبّعة ولا للقضية الفلسطينية، بل حدث العكس، أي الاعتراف لها بالقدس عاصمة، وبالجولان، وبالاستيطان. اعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية قرار نقل إسرائيل من القيادة الأوروبية إلى القيادة المركزية للجيش الأمريكي «فرصة استراتيجية»، لأنها ستسمح لأمريكا ب«توحيد شركائها الاستراتيجيين في مواجهة التهديدات المشتركة في الشرق الأوسط»، وقد استقبل الإسرائيليون القرار بالترحاب والفرح، لأنه يسمح لهم ب«تعزيز التعاون» مع أمريكا في مواجهة ما تعتبره إسرائيل «تهديدات إقليمية». أما العرب، فقد تجاهلوا الحدث كأن شيئا لم يقع، ولم يعلقوا بشيء، اللهم ما كتبته الصحافة المصرية التي بدت متوجسة من نتائج هذا القرار على الأمن القومي المصري. القرار العسكري الأمريكي معناه إدماج إسرائيل والدول المطبعة معها في استراتيجية عسكرية واحدة، لمواجهة ما تعتبره أمريكا «تهديدات مشتركة» لدول المنطقة، ودلالة ذلك أن أمريكا تريد أن تدفع في اتجاه إعادة صياغة العقيدة الأمنية لدول المنطقة بأن تمتلك تصورا موحدا للتهديدات الأمنية والعسكرية، حيث تصير التهديدات في المنظور الأمني الإسرائيلي هي نفسها التهديدات في المنظور الأمني السعودي والإماراتي والمصري والأردني، وقد يترتب على ذلك بناء سياسات أمنية مشتركة. لم أذكر المغرب لأنه يقع ضمن مسؤولية قيادة «أفريكوم»، وبالتالي، قد لا يكون معنيا، بشكل مباشر، بالاستراتيجية العسكرية للقيادة المركزية (سينتكوم)، وبتوجهاتها الجديدة في توحيد إسرائيل مع الدول المطبّعة في مواجهة ما اعتبرته «تهديدات مشتركة»، لكنه سيظل معنيا بالاستراتيجية السياسية والدبلوماسية لوزارة الخارجية الأمريكية التي تصنّفه ضمن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولعل هذا التمايز بين العسكري والدبلوماسي في الاستراتيجية الأمريكية قد يسمح له بالمناورة قليلا، لكنه سيظل جزءا من الاستراتيجية، وملزما بنتائجها. تُبرر بعض الأنظمة العربية حاجتها إلى إسرائيل بمواجهة التحدي الفارسي، لكن متتبع السياسة الأمريكية يلاحظ أن أمريكا هي التي عززت نفوذ إيران في المنطقة، بل إن الإدارة الأمريكيةالجديدة، برئاسة جو بايدن، تبدو متحمسة للعودة إلى تفعيل الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، وقد تأخذ بعين الاعتبار بعض مخاوف دول الخليج وإسرائيل، وقد لا تفعل، في حال أصرّت إيران على موقفها الرافض لأي تعديلات جديدة. بعبارة أخرى، إذا كان البنتاغون يسعى إلى ضم إسرائيل والدول المطبعة في استراتيجية عسكرية واحدة، فإن الإدارة الأمريكيةالجديدة قد تتجه نحو تبني أكثر من سياسة خارجية واحدة تجاه المنطقة، تبعا لمصالحها، إذ قد تنهج سياسة خاصة بإيران وحلفائها، وأخرى خاصة بالعرب وإسرائيل، وربما سياسة ثالثة خاصة بتركيا وحلفائها. ما يعني أن المبرر الخليجي حول التهديد الإيراني لا تأخذه أمريكا على محمل الجد، مادامت تستطيع أن تعزز مصالحها مع العرب والإيرانيين على حد السواء. هكذا يظهر أنه في الوقت الذي تريد بعض دول الخليج إسرائيل إلى جانبها ضد التهديد الإيراني، يبدو أن أمريكا استعملت التهديد نفسه ذريعة لإدماج إسرائيل وسط العرب، وقد يكون الهدف التالي هو تأمين إسرائيل، بما لها من قوة تكنولوجية واستخباراتية وعسكرية، على الأنظمة العربية، بوصفها ثروة نفطية ومالية لا غير، بعدما فشلت «الشقيقات» الكبرى في ذلك على مدى العقود الماضية. ولله في خلقه شؤون.