أفضل ما حصل في يومي نهاية الأسبوع الماضيين، بما ميّزهما من جو بارد وماطر، هو تلك الجلسات العلمية التي انعقدت طيلة اليومين، مع تأمين النقل المباشر لها عبر الأنترنت، من تنظيم المختبر المشهود له بالفعالية في تشريح الواقع تحت منظار العلوم الاجتماعية، أي مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، إلى جانب مؤسسة كونراد أديناور. علماء السوسيولوجيا وعلم السياسة والقانون الدستوري الذين شاركوا في هذه الندوة العلمية حاولوا أن يجيبوا عن سؤال: «التنمية أم الحرية؟»، وذلك تحديدا في منطقة شمال إفريقيا. سؤال يصادف الكثير من السياقات التي تجعله ملحا وذا راهنية كبيرة، أولها هذا القلق الكبير الذي يعيشه العالم جراء التحولات المخيفة التي يعيشها على جميع الأصعدة، ثم هذا السياق الإقليمي الذي لا يقل قلقا واضطرابا بعد عقد كامل من محاولة شعوب المنطقة النهوض من تحت أثقال الفقر والاستبداد لانتزاع الخبز والكرامة، ووصولا إلى السياق الوطني الذي يتميّز بقرب إعلان اللجنة، التي يقودها شكيب بنموسى، نموذجها التنموي الجديد الذي يفترض أن نسير على دربه في المرحلة المقبلة. وأنا أتابع جلسات هذا اللقاء العلمي التي تبث تباعا، كانت فكرة واحدة تلحّ على استدعاء ذاكرتي الضعيفة، مصرة على أنني حضرت نقاشا مماثلا في اللحظات الأولى بعد الربيع العربي، وأن الزمن قام بدورته الكاملة بشكل سريع مقارنة بحركة التاريخ، وها نحن نعيد طرح السؤال نفسه. أسعفتني ذاكرتي في العثور على الكلمات المفتاحية وأنا أبحث في أرشيفي الإلكتروني، فوجدتني بالفعل حضرت وكتبت تقريرا مطولا عن ندوة اخترت لها باجتهاد شخصي مني: «الخبز أم الحرية، أيهما أولوية حكومة بنكيران؟». وكان من الصدفة أن هذا اللقاء عقد في دجنبر 2012، أي قبل ثماني سنوات بالضبط. كتبت يومها أن المطلوب من بنكيران وحزبه وحكومته أن يؤسسوا تناوبا ديمقراطيا حقيقيا، يتجاوز عثرات المحاولة الأولى مع المعارضة الاتحادية وزعيمها السابق عبد الرحمان اليوسفي، وفي الوقت نفسه، تدارك العجز المُهول الموروث عن خمسين سنة مضت، في مجالات السكن والصحة والتعليم والقضاء والنقل... واستشهدت في ذلك بما قالته «فقيهة» علم الاجتماع رحمة بورقية، من أن «التنمية الاجتماعية من أبعاد مسلسل الدمقرطة». كان الحديث يومها يجري في إطار ندوة نظّمتها، نهاية الأسبوع الماضي بالرباط، جمعية خريجي برنامج «فولبرايت» الأمريكي، الموجه إلى الباحثين في العلوم السياسية، والرئيس الحالي لمجلس المنافسة، الكاتب العام للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وقتها، إدريس الكراوي، طرح أمام أولى حكومات الدستور الجديد قائمة بتسع أولويات اجتماعية ينبغي تحقيقها، هي إصلاح صندوق المقاصة، وإصلاح أنظمة التقاعد، وتقوية نظام التغطية الصحية وأنظمة المساعدة الطبية، خاصة لفئات مثل الفلاحين والطلبة... وإخراج قانون التعويض عن فقدان الشغل وقانون ممارسة حق الإضراب والقانون المتعلق بالنقابات، ثم أنظمة التضامن الاجتماعي وتعزيز الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني وإدماج الشباب. الحقيقة أن إعادة طرح سؤال «الخبز أم الحرية» واسترجاع هذه الذكرى، كان لهما وقع مؤلم، بما أن المآل السريع كان هو الفشل فيهما معا. فقد اتفقنا جميعا على فشل النموذج التنموي، كما لا ينكر أحد انحدارنا سياسيا وحقوقيا إلى درجة التراجع عن كل ما بشّر به دستور يوليوز 2011. بين ندوة اليومين الماضيين وندوة 2012، ينتهي الأمر دائما إلى النسبية وعدم حسم هذا الاتجاه أو ذاك، وهذه هي طبيعة العلم. فأمريكا أقامت ديمقراطية راسخة في وقت تهيمن فيه أقلية قليلة على جل الثروات، والصين بنت اقتصادا قويا في ظل الدكتاتورية، فيما نحن لم ننجح لا في هذه ولا في تلك. حكيم هذا المجال، المفكر عبد الله ساعف، مهّد لنقاشات اليومين الماضيين بتشخيص فتح أعين الجميع على التراكم الذي حققته البشرية في هذا المجال. فقد مرّت محاولة الجواب عن سؤال التنمية أم حقوق الإنسان بمراحل مختلفة، أولاها كانت مرحلة الدفع بحجة وجود ظروف استثنائية تبرر تأجيل المطالب السياسية والحقوقية، وهو ما قامت به الأنظمة السلطوية في مراحل الاستقلال الأولى. ثم بعد ذلك جاء خطاب التطابق، أي الاستعاضة عن فكرة التأجيل بادعاء أن الحقوق والحريات سوف تتطور تلقائيا كلما تحسنت الأوضاع الاقتصادية، ثم جاءت مرحلة «الشرطية» بتعبير ساعف، أي حين جعلت الدول المتقدمة من الإصلاحات السياسية والحقوقية شرطا للتعاون مع الدول النامية بعد انهيار جدار برلين، لينتهي الأمران إلى الانصهار حاليا، حيث لم يعد العالم ينظر إلى التنمية والحقوق باعتبارهما دائرتين منفصلتين، بل «بات الغذاء والماء والصحة والتعليم والسكن والولوج إلى العدالة ليست مجرد سلع بل هي حقوق ينبغي ضمانها للإنسان في كل مكان». أين نحن من هذا التطوّر؟ أخشى أننا وصلنا إلى المرحلة الأخيرة كما طرحها ساعف، لكن من زاوية معاكسة. هناك اليوم بوادر ومؤشرات على نسف واستبعاد المطلبين معا، أي التنمية والحقوق؛ الأول بدعوى الجائحة وتداعياتها، والثاني بدعوى الخوف على الاستقرار. هناك اليوم في الساحة عرض يكشف نفسه بصراحة ووضوح، يقوم على نهج خيار التعايش على أساس الخوف والرضا بالقليل، وفي الأذن صدى لعبارة: «واش بغيتونا نوليو بحال سوريا؟». قالها زميلنا السابق، الجامعي إسماعيل حمودي، في الندوة الثالثة لأول أمس السبت: «لقد اتخذت السلطات خلال فترة الجائحة إجراءات لا تتطلبها الأزمة الصحية، وإنما كانت بغرض توسيع صلاحيات هذه السلطات لضبط المجتمع والفاعلين فيه أكثر». وحاضر أستاذ القانون الدستوري، محمد فقيهي، بحرقة كبيرة محذرا من دلالات طرح «قانون تكميم الأفواه» في عز الحجر الصحي، والذي يتضمن 16 عقوبة جنائية قاسية ضد أفعال ترتبط بالتعبير عبر الشبكات الاجتماعية. وأجملها أستاذ علم الاجتماع، نور الدين الزاهي، في خلاصة تأملاته الفكرية خلال فترة الحجر، والتي قادته إلى اكتشاف الخطر الذي يمثله اللامبالون بالسياسة، حيث أصبح سلوكهم المتجاهل لقرارات الدولة للحد من انتشار الجائحة أكبر تهديد للمجتمع، بل ول«هيبة الدولة»، ما استدعى تخصيص خطاب ملكي كامل لمخاطبتهم. قد يتقبّل الإنسان فقره وعوزه المادي، إن كان ذلك «قدرا»، لكن فكرة اللاعدالة لا يمكن قبولها. قد تخزّن في ركن سحيق داخل الأذهان، لكنها لن تهضم، لهذا، كان هناك من يرى في مقابل صورة «الفيروس القاتل» فكرة «الفيروس العادل»، كما عبّر عن ذلك نور الدين الزاهي. لهذا، علينا ونحن نستعجل إتمام وصفة حل مشكلتي التنمية والحقوق بحمل الناس على الخوف، أن نفكّر مليا في كلفة ما بعد تململ اللامبالين، فقد يجدون في أكثر الجوائح فتكا تعويضا عن ذلك العدل الذي حرموا منه.