عادة ما نطلق وصف «التاريخي» على وقائع وأحداث لا تمثل في الحقيقة أية نقلة تاريخية، لكننا، منذ صباح يوم الجمعة الأخير، نعيش مرحلة ما بعد استرجاع الكركرات، والتي لن تشبه في شيء مرحلة ما قبلها. فما وقع، نهاية الأسبوع الماضي، ليس مجرّد عملية أمنية جراحية موضعية جرى تنفيذها بكثير من الهدوء والاحترافية، بل هو أول تغيير فعلي وميداني لواقع جيواستراتيجي فرض على المغرب منذ وصول أولى طلائع الاستعمار الأوربي إلى الغرب الإفريقي، حين جثمت فرنسا بثقلها العسكري والاقتصادي على هذا الجزء الحيوي من القارة السمراء، ثم اقتسمت الكعكة مع جارتها إسبانيا التي بسطت نفوذها على الصحراء المغربية، ليصبح المغرب، منذ ذلك الحين، منفصلا عن عمقه الإفريقي. ما وقع نهاية الأسبوع الماضي لم يستغرق بضع دقائق ولا سويعات، كما يردّد البعض، عن حماس وحسن نية ربما، بل هو عملية طويلة وعسيرة وشاقة، تطلّب تنفيذها ما لا يقلّ عن الخمس سنوات، لضمان الاسترجاع الفعلي والرسمي والمعترف به دوليا وإقليميا، لهذا الارتباط البري الآمن بين المغرب والغرب الإفريقي. عملية بدأت ميدانيا وعلنيا على الأقل منذ صيف العام 2016، حين قام المغرب بأول عملية أمنية ل«تنظيف» معبر الكركرات، وتخليصه من أنشطة التهريب والاتجار في المخدرات، والتي كانت تقوم بها جماعات من بينها منتمون إلى جبهة البوليساريو. حينها أنهى المغرب تحضيراته الدبلوماسية الشاقة والعسيرة لاسترجاع مقعده داخل الاتحاد الإفريقي، وتأتى له ذلك في يناير 2017، ووقف الملك محمد السادس أمام القمة الإفريقية معلنا أن «شعلة اتحاد المغرب العربي قد انطفأت، في ظل غياب الإيمان بمصير مشترك»، وأن «الحلم المغاربي، الذي ناضل من أجله جيل الرواد في الخمسينيات من القرن الماضي، يتعرض اليوم للخيانة»، ثم سارعت المملكة مباشرة بعد ذلك إلى طلب العضوية في المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (صيدياو)، ثم وقّع المغرب ونيجيريا في ماي 2017 اتفاق مد أنبوب الغاز بينهما مرورا بدول غرب إفريقيا... لكن كل ذلك كان في حاجة إلى تلك العملية التي جرت في الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة الماضي. الاسترجاع التام والكامل للكيلومترات العشرة الفاصلة بين طريق الكركرات والساحل الأطلسي لشبه جزيرة الكويرة، هو أول وأكبر اختراق حقيقي يحقّقه المغرب في ميدان المعركة التي فتحها قبل نصف قرن تقريبا. فحدث المسيرة الخضراء، بكل رمزيته وحمولته الرمزية والوطنية، وبعدها استرجاع إقليم وادي الذهب بعد تنازل تكتيكي عنه لفائدة موريتانيا، والحرب الضروس التي خاضها جيل كامل من المغاربة بما تعنيه من كلفة في الأرواح والأموال؛ كل ذلك لم يحقّق للمغرب هذا الاتصال الفعلي والآمن مع جذوره الإفريقية التاريخية. حين يكون الإنجاز عظيما، فإن تلمّس وتذكّر الطريق التي أوصلت إليه، يصبحان أهم وأجدى، لأن دروب النجاح لا تكتشف بسهولة. وإذا كنت قد كتبت في هذا الركن قبل أسبوعين فقط داعيا إلى استرجاع الكركرات، فإن تاريخ 13 نونبر 2020 يستحق أن يضاف إلى الأيام الوطنية، ولا داعي لأن نخجل من الاعتراف بأننا، إلى غاية هذا التاريخ، كنا محرومين من جزء من أرضنا، ومن نقطة حدودية فعلية وحقيقية مع جارتنا موريتانيا. وعلينا أن نتذكر أن الطريق نحو الكركرات بدأت منذ شرعنا في التفكير في نموذج تنموي جديد للصحراء، وأطلقنا طريق تزنيت-الداخلة السريع، وعبّرنا عن حلم بناء الميناء الأطلسي الكبير قبالة جزر الخالدات، وأقنعنا من يراقب من بعيد بأننا بالفعل بصدد تأسيس فضاء إيجابي جديد. لهذه الأسباب، وأخرى عديدة، يخطئ البعض منا حينما يسقطه الحماس والاندفاع في الاحتفاء ب«نصر عسكري» في «معركة الكركرات». الجيش المغربي أكبر وأقوى وأكبر شأنا من أن نبحث له عن نصر ساحق في مثل عملية صغيرة كهذه نفّذها بكل مهنية واحترافية. ما تحقق يوم الجمعة الماضي نصر استراتيجي وانعطافة تاريخية ينبغي أن نعيها ونفهم أبعادها، أما قواتنا المسلحة، فهي في غنى عن نصر مثل هذا، وسجّلها حافل بالحروب الكبرى، بدءا من موقعة حرب الرمال، ومرورا بمواجهة الجيش الإسرائيلي في جبال الجولان، ووصولا إلى حرب الصحراء الطويلة والدامية. استرجاع معبر الكركرات مجرّد خطوة أولى في مسار بات مؤكدا أنه انطلق لاسترجاع ما تبقى من أراضينا شرق الجدار الأمني، وبناء مجال جديد للنمو والتبادل وخلق الثروات في الواجهة الأطلسية لغرب إفريقيا. فتاريخيا، كانت أقوى الدول المغربية تخرج من قلب الصحراء، وما يجري أمامنا حاليا هو فرصة ربما لم تتح لنا ولأسلافنا منذ قرابة القرنين، ومن يرغب في فهم ذلك، فما عليه سوى مراجعة سجلات ووثائق التاريخ القريب، ليعي أن إضعاف الدولة المغربية لم يتحقق بالهجوم على سواحلها، ولا باحتلال ثغورها الشمالية، ولا بدأ مع معركتي إيسلي وتطوان، بل إن المستعمرين تمكنوا من ذلك حين قطعوا صلتنا بالجذور الإفريقية، وحرصوا، حتى وهم يغادرون المنطقة، على زرع مشروع الانفصال في خاصرتنا الجنوبية، وكلّفوا جيراننا الجزائريين بحمل وحراسة هذا المشروع الذي يمنع عودة اتصال الشجرة بجذورها، ليقينهم بأن الدول كائن حي، يتغذى بالضرورة على مجالاته الحيوية وعمقه الاستراتيجي. هذا المشروع الانفصالي آخذ في التفكك والانحلال اليوم، ليس فقط لأنه فكرة فاسدة، بل لأن الزمن تجاوز البيئة التي احتضنته، والعالم كلّه -بما فيه الجزائر التي تعيش مخاضها العسير من أجل اللحاق بالركب ونتمنى لها كامل النجاح في ذلك- يتطلّع اليوم إلى ميلاد هذا الفضاء الجديد. يبدو، بكل وضوح، أننا أقنعنا العالم بقدرتنا وجاهزيتنا لقيادة مشروع غرب إفريقيا الجديد، يبقى أن علينا عبئا ومسؤولية لا يقلان أهمية، يتمثلان في تحرير إخوتنا العالقين في شراك الوهم الانفصالي. لننظر إلى ذلك المواطن الصحراوي المغربي الذي ولد وشبّ في مخيمات محاصرة ومحكومة بالعيش خارج التاريخ، هذا الإنسان بالضبط، علينا ألا ننسى حقه علينا، بعد نزع السلاح من يده، في الالتحاق والمشاركة والاستفادة من ثمار ما نحن مقبلون عليه من زرع جديد، بعد رجوعنا الفعلي إلى قارتنا الإفريقية.