منذ صدور النداء الملكي الذي تضمنه خطاب المسيرة الخضراء، والذي جدد تأكيد معطى اليد المغربية الممدودةللأشقاء الجزائريين؛ تعثّرت جل المحاولات التي جرت حتى الآن من جانب الإعلام وبعض النخب السياسية لتفعيل مايطمح إليه قرابة مائة مليون من سكان المغرب العربي، في حبال الأفكار السطحية والكليشيهات الجاهزة، وتصيّدالأخطاء، وتغليب أكثر التأويلات سوءا. إن الشرخ الذي يفصل بيننا وبين الجزائر أكبر وأعمق من عبارات تدغدغ العواطف وتختبر حسن النوايا، وتحاولحشر هذا الطرف أو ذاك في الزاوية الضيقة. وهذا الحلم المقبور منذ الانسحاب «الشكلي» للاحتلالات الأوربية منالمنطقة المغاربية، أي حلم الوحدة، لن يجد طريقه نحو التحقيق إذا لم نضع مشكلتنا في إطارها الجيوسياسي العام. دون أي شوفينية أو نرجسية، دعونا نقول إن المغاربة أكبر ضحايا وضع الجمود واللامغرب عربي. دعونا نصارحأجيال ما بعد المسيرة الخضراء بالجذور العميقة لما نعيشه من عزلة عن العالم، وتضييع لفرص النمو والنهضة،ونخبرهم بأنهم ضحايا لعبة جيوسياسية كبيرة انطلقت منذ قرنين على الأقل، غايتها اجتثاث الدولة المغربية من عمقهاالإقليمي، منذ امتدت أيادي الاستعمار إلى اقتسام الشمال الإفريقي. فإذا كانت المعركة في باقي دول المنطقة حسمت استراتيجيا بسقوط الخلافة العثمانية التي كانت تستظل بها، فإنصمود دولة المغرب، بغض النظر عن مواقفنا من نمط تدبيرها وكيفية تعاطيها مع المشاريع الإصلاحية، يجعلها فيقلب المعركة نفسها التي انطلقت منذ وطئ الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر، أي معركة القضاء على الدولة التيصمدت وتأقلمت وتجددت، محتفظة بعمقها التاريخي والديني الذي جعل الأوربيين، خاصة الفرنسيين، ينظرون إليهامنذ اليوم الأول كحاجز يفصل بين الجزائر التي اعتبروها، واهمين، فرنسية خالصة، وبين الغرب الإفريقي الذي«فتحوه». مساء أول أمس سمعت القيادي الاستقلالي المخضرم، امحمد الخليفة، يستهل حديثه في ندوة احتفاء الزملاء فيجريدة «العمق» بذكرى تأسيسهم، بالقول إن المغرب إمبراطورية تمتد إلى عشرة قرون، «سقطتها المريعة كانتبتوقيع عقد الحماية». لذلك، على النخب السياسية العارفة بجذور المعارك الكبرى والحقيقية أن تكسر طابو الخوفمن الإقدام على النقاشات الحقيقية والمصيرية. ف«من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل؛ ومن يتحكم فيالحاضر يتحكم في الماضي»، كما قال الكبير جورج أورويل في روايته «1984». لا وجود لخلاف ثنائي مغربي جزائري خارج هذا الإطار الجيوسياسي الذي يحكمنا، بل لا وجود لقضية اسمها«الصحراء الغربية» خارج ترتيبات مستعمرينا «السابقين». وإذا كان جيراننا المغاربيون صادقين في كسر هذهالقيود التي حرمتنا، طيلة هذه العقود، من بناء ذلك المشترك الذي لا مناص لنا منه للنهوض، فإن عليهم الإقرار بأنهمورثوا –عن وعي أو مكرهين لا يهم– أجندات أثبت الزمن أنها ليست أجنداتهم ولا تخدم مصالحهم. لقد حان الوقتلنقتنع جميعا بأن نهوض دولنا الوطنية لن يتحقق إلا بانصهار جماعي في وحدة مغاربية. لقد جرّبنا طويلا أن ننتصرعلى بعضنا البعض، فخرجنا جميعا من المعركة خاسرين. إن حلم القضاء على المغرب، الدولة القوية والعريقة، الذي يراد إلصاقه بأجندة دولة جزائرية توصف ب«البسماركية»،هو، في حقيقة الأمر، مشروع القوى التي استعمرت المنطقة منذ قرنين على الأقل، والتي اكتشفت أن جل محاولاتهالاستكشاف طريق آمنة وعملية للربط بين «الجزائر الفرنسية» وغرب إفريقيا تصطدم بنفوذ و«شفرة» الدولة«الشريفة» لبلوغ تومبوكتو أو دكار أو الساحل الأطلسي بجنوب طرفاية. ما على الذين يعتقدون أن هذه التفاصيل باتت من الماضي أو تجاوزها الحاضر، إلا إلقاء نظرة على ما تشهدهالأرض الليبية المستباحة حاليا من حرب فرنسية–إيطالية، وينظر كيف تسابق فرنسا الزمن لتجديد قبضتها السياسيةوالاقتصادية والعسكرية في الشمال والغرب الإفريقيين، ليخبرونا ما الذي تغيّر بين أواخر القرن ال19 واليوم؟ إذا كانت قوة «جديدة»، متمثلة في أمريكا، تحاول اليوم سحب هذه المنطقة من النفوذ الفرنسي الخالص، وتفرضعلى دول المنطقة الجلوس إلى بعضهم البعض؛ فإن المبادرة الملكية، وما تلاها من خطوات جزائرية وموريتانية لجمعوزراء خارجية المغرب العربي، قد تشكل فرصة لنا، نحن الشعوب المغاربية، لاستعادة المبادرة، وتوظيف المعطياتالدولية الجديدة لخدمة مصالحنا، وتقرير مصيرنا، عوض الانقياد للرياح التي تهب من الشرق تارة ومن الغرب أخرى. عودوا إلى وثائق التاريخ والأرشيفات الدبلوماسية المفتوحة اليوم لتتأكدوا أننا «نظلم» الجزائر، أو لنقل إن هذهالأخيرة تظلم نفسها حين تدعي أو تعطي الانطباع بأنها صاحبة أجندة ترتبط بثروات الحديد والفوسفاط أو المنفذالأطلسي. اسألوا المؤرخين المستقلين لتكتشفوا، كما يقول المجتهد الجيلالي العدناني، أن القادة العسكريينالفرنسيين اهتدوا، منذ أواخر القرن ال19، إلى رسم الحدود التي يريد البعض رسمها للمغرب اليوم باسم الجزائر،وأطلقوا عليها اسم خط ««TTT، أي ضرورة حصر السيادة المغربية شمال الخط الرابط بين طرفاية وتندوف وتوات،شرطا ضروريا لبسط سيطرة فرنسية فعلية من «الجزائر الفرنسية» إلى إفريقيا الغربية. بإمكاننا اليوم تحويل«TTT» من مثلث برمودا، الذي ظل يبتلع المغرب العربي منذ عقود، إلى «دلتا» يتلاحم فيه المغرب والجزائروموريتانيا، وتنبت فيه بذور الحلم القديم.