وأنا أقلّب أوراق القرار الأممي الأخير حول الصحراء، والذي أصدره مجلس الأمن الدولي يوم الجمعة الماضي، وأحاول استكمال عناصر قراءته من خلفيات وسياق ووقائع غير معلنة، وجدتني، بعد نهاية مكالمة مع واحد من المتتبعين الملمّين بهذا الموضوع وخلفياته، مندهشا من انسياقنا معا للاتفاق حول خلاصة مفادها أن قرار مجلس الأمن الدولي الجديد لم يحمل جديدا ذا بال. كيف يمكننا، نحن الذين ندفع في كل يوم من قوتنا اليومي ومن مستقبل أبنائنا لسداد كلفة هذا النزاع، أن نقبل بمرور اجتماع لمجلس الأمن الدولي، واتخاذه قرارا يهم نصف ترابنا الوطني، كأي حدث لا يحمل جديدا؟ هل يكفي طول أمد النزاع واستمرار فترة الهدوء الميداني ثلاثة عقود، كي نطبّع مع المأساة؟ وإذا كان طبيعيا أن نجزع وننفعل بسبب جائحة، كالتي تعيشها البشرية حاليا، وتصريحات متنطعة كمثل تلك التي أدلى بها الرئيس الفرنسي، هل يستقيم ألا تحرّك فينا ساكنا مشاهد استفزاز جنودنا المرابطين في الجبهات بشعارات وأعلام انفصالية؟ هل يحق لنا، بصفتنا دولة وأمة، أن نتصرّف دون أدنى اكتراث ومنفذنا الحدودي البري الوحيد مختنق وواقع تحت تهديد البنادق؟ لا أقصد بذلك الدعوة إلى إطلاق العنان للبنادق والمدافع، لكن هذا الجيل، الذي ولد منذ بداية التسعينيات إلى اليوم، لم نقدّم له أي تأطير سياسي أو إعلامي، وأبقيناه محاصرا بين خطب وبيانات ورسائل إعلامية، كلها تعيد تكرير الخطاب الرسمي نفسه، مع قدر هائل من لغة الخشب والمداراة وإخفاء الحقيقة المريرة وراء عبارات وكلمات دبلوماسية منمقة لا تقول شيئا في آخر المطاف. وحتى يكون المرء منصفا، لا بد من القول إن مبادرة الحكم الذاتي، وما رافقها من دينامية سياسية ومشروع للجهوية الموسعة، كل ذلك فتح كوة كبيرة في جدار الصمت والجمود، وشكّل فرصة حقيقية لانتقال جيل عهد الملك محمد السادس من حالة الحرب الموروثة من مرحلة الملك الراحل الحسن الثاني، إلى مستقبل تواجه فيه أمتنا تحديات المخاض، الذي يعيشه النظام العالمي، بحجارة أقل داخل الحذاء. وإذا كان القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي لم يحمل ما يمكن أن يؤسس تحوُّلا ما في المسار الدولي للملف، فإن ذلك لا يعطينا الحق في ركوب موجة التهليل والتبريك، كما لو أننا نزعنا سلاح الميليشيا المسلحة والمعسكرة في تندوف غير بعيد عن حدودنا. وإذا كان من حق وزير خارجيتنا ومبعوثنا الدائم لدى الأممالمتحدة أن يحتفيا ب«الثبات» و«الحزم» و«الوضوح» في نص القرار الأممي الجديد، فإن القراءة الأولية والسريعة للوثيقة تكفي المتابع البسيط ليلاحظ فورا أن القرار الجديد للمجلس خلا من أية إشارة إلى هجوم الموالين للبوليساريو على معبر الكركرات، ومنع حركة التنقل بيننا وبين جارتنا موريتانيا. يحق للدبلوماسية المغربية أيضا أن تحتفي بالتمثيليات القنصلية ال15 التي افتُتحت في مدينتي العيون والداخلة، لكن الاحتباس الذي يعيشه الملف على الصعيد الأممي، والمتمثل أساسا في غياب ممثل شخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء منذ عام ونصف العام، يعني أن المنتظم الدولي وضع ملف وحدتنا الترابية في الثلاجة في انتظار اتضاح خريطة التوازنات الدولية. وبشرى افتتاح قنصلية عامة لدولة الإمارات العربية المتحدة، وبعيدا عن القراءات النزقة التي حاولت ربط الأمر بشكل مباشر بتطبيع مغربي محتمل مع إسرائيل، تشير، في حقيقة الأمر، إلى اقتراب رياح الزوابع التي تتولى إعادة تشكيل المنطقة العربية سياسيا من أراضينا الجنوبية. وهي زوابع تحمل الكثير من المعطيات الجديدة في المشهد الدولي، والتي لا يمكن بأي حال التعامل معها كما ألفنا التعامل مع القوى الممثلة داخل مجموعة «أصدقاء الصحراء». لقد أبانت الدبلوماسية المغربية في السنوات الأخيرة عن قدر كبير من الاحترافية والبراغماتية والقدرة على الاستباق والمبادرة.. هذا نصف مليء من الكأس لا ينكره إلا جاحد، لكن ذلك لا يعفينا من الاعتراف بأننا ومثلما ساهمنا بشكل أو بآخر في ظهور المشروع الانفصالي في الصحراء، من خلال السلوك القمعي والاستبدادي لمسؤولي مغرب السبعينيات، مازلنا نعاني أعطابا موروثة عن العقود السابقة. منها أننا لا نكمل إنجاز ما ننهض إليه، كما هو الحال داخل الاتحاد الإفريقي، حيث ذهبنا إلى أديس أبابا في سياق خروج كبير نحو إفريقيا لبناء واقع جديد، فإذا بنا اليوم نكتفي بمجالسة الخصوم والتصدي لمؤامراتهم بطريقة كسر الهجمات في مباريات كرة القدم. إننا ونحن الدولة التي أبانت عن صلابة كبيرة في مواجهة أعتى عواصف العقد الماضي، من ثورات عارمة ومدّ إرهابي دموي وضغوط دولية ومساومات الإخوة والأعداء، لا يمكننا أن نستطيب هذا الهدوء المريب في تخوم الصحراء. فما راكمناه من نجاحات دبلوماسية واختراقات اقتصادية وتحالفات متنوعة، يمنحنا كل الشرعية في تغيير ولو جزئي في الواقع الميداني. وإذا كانت «عقدة الرواية» تكمن في صراعنا مع الجزائر، فإنه من غير المفهوم ولا المقبول استمرار هذا الوضع الشاذ في حدودنا مع جارتنا موريتانيا. ودون أية انتهازية ولا استغلال لحاجة موريتانيا إلى منفذنا البري المشترك، هناك اليوم فرصة كبيرة لبناء مصالح مشتركة وتغيير واقعنا معا، كمغاربة وموريتانيين، في انتظار استيقاظ جارنا الجزائري الواقع تحت تخدير قوي المفعول. إذا لم يكن بمقدورنا حسم ملف وحدتنا الترابية بالكامل اليوم، فإن من حقنا البحث عن سبيل لفصل شطره المرتبط بعلاقاتنا الثنائية مع موريتانيا، وتطبيع حدودنا المشتركة، وإنهاء الوضع الشاذ لكل من الكويرة والكركرات، وذلك الشريط الغريب الفاصل بيننا وبين الحدود الموريتانية. وإذا لم تنفعنا أوراق قوتنا العسكرية وإمكاناتنا الأمنية في التصدي للإرهاب، ومؤهلات المغرب الاقتصادية باعتباره منصة مفتوحة على العالم، والمكانة الدينية لإمارة المؤمنين، لتأسيس واقع جديد في غرب إفريقيا، لا أعرف ماذا ستكون فائدتها.