منذ أكتوبر 2016، تزامن اضطلاع «البيجيدي» بولايته الثانية على رأس الحكومة مع اندلاع حراك الريف، ثم موجة احتجاجات في مناطق مختلفة من المغرب. كيف تقيم تعاطي الحزب الذي يرأس الحكومة مع هذه الحركات؟ فوجئ الحزب، مباشرة بعد فوزه الانتخابي، باندلاع حراك الريف، وآنذاك كان السيد بنكيران مكلفا بتشكيل الحكومة ورئاسة حكومة تصريف الأعمال في الآن نفسه، وقد دعا أعضاء الحزب حينها إلى عدم الانخراط في تلك الاحتجاجات، في انسجام مع المواقف التقليدية لبنكيران الذي يعتبر الاحتجاجات ذات البعد الجماهيري مغامرة قد تستهدف استقرار البلد، وهي مقاربة تقليدانية للفعل الاحتجاجي الذي من المفترض أن تطبع معه الدولة باعتباره آلية مدنية للاعتراض. وبعد إعفاء بنكيران وتنصيب العثماني مكانه، كان الحزب من الموقعين على بيان الأغلبية الحكومية الذي اتهم الحراك بالانفصال، ما أسهم في تأجيج أوضاع كانت في الأصل محتقنة. وطيلة هذه الولاية الحكومية، استسلم حزب العدالة والتنمية، كما باقي أحزاب الأغلبية، لقدرية تدبير وزارة الداخلية والمؤسسة الأمنية، وتصريفهما موقف الدولة من هذه الحراكات والاحتجاجات. بل أكثر من ذلك، لم تستطع البنية المحافظة سياسيا ل«البيجيدي» المبادرة للقيام بوساطة، سواء في الملفات المطلبية أو الإفراج عن معتقلي الحراكات. لا ننكر أنه كانت هناك بعض التحركات المحدودة لنواب من الحزب (الأندلسي نموذجا)، لكنها تحركات ترتبط بعلاقة ذلك البرلماني بمحيطه المحلي أكثر مما تتعلق باختيار حزبي. ورغم أن الحزب حاول لاحقا تدارك «لعنة» توقيعه على بيان الأغلبية المدين لحراك الريف، عبر تضمين بعض بياناته نقطة تطالب بتنقية الأجواء الحقوقية من مدخل الإفراج عن المعتقلين السياسيين، فإنه أبان عن «جبن» ومغالاة في المحافظة السياسية وهو يرفض دعم مقترح النائبين البرلمانيين لفيدرالية اليسار الديمقراطي سن عفو عام عن كل معتقلي حراك الريف، فالحزب عارض هذا المقترح رغم دستوريته بمبرر الأعراف والتقاليد المرعية التي تجعل العفو مجالا محفوظا للملك. وللأسف، فإن موقع الرميد، باعتباره وزير دولة مكلفا بحقوق الإنسان في هذه المرحلة، سيجعل الحزب يتحمل مسؤولية سياسية عن التدبير الفاشل للدولة لملف هذه الحراكات المطبوع بانتهاكات حقوقية. كيف تنظر إلى تعامل الحزب مع قضايا حرية الصحافة والتعبير والاعتقالات التي استهدفت النشطاء الرقميين والصحافيين المهنيين؟ لم يختلف تعاطي الحزب مع هذه القضايا عن طبيعة تعاطيه مع قضايا الحراكات الاجتماعية، إذ إنه يسلم برواية الأجهزة الأمنية وبلاغات النيابة العامة دون قدرة على المساءلة وطلب توضيحات، وكأن الحزب يخشى الاصطدام بالساهرين على هذه الردة الحقوقية، أو يخشى أن تستهدف حملة الاعتقالات والتشهير والمساس بالحياة الخاصة قيادييه ورموزه. وأكثر من ذلك، فإن موقفه كان متخاذلا إزاء ما تعرضت له نائبته البرلمانية أمينة ماء العينين، وفي الوقت الذي كان من المفترض دعمها واحتضانها حزبيا، استدعيت للمثول أمام لجنة الأخلاقيات، وهي دعوة، بغض النظر عن مخرجاتها، تستبطن إدانة مسبقة. صحيح أن الحزب لم ينتج مواقف منتصرة لحرية التعبير في هذه المرحلة، لكنه، للأمانة، لم ينخرط في حملة شيطنة الصحافيين والنشطاء المدنيين والرقميين الذين تعرضوا للاعتقالات أو حملات التشهير، باستثناء الموقف المتشنج للرميد بصفته الحكومية في ملف عمر الراضي، وأعتقد أن تسليم الحزب بما تقوم به الدولة من انتهاكات لحرية التعبير والتضييق على التعبيرات الحقوقية بدأ يطرح مشاكل حتى داخل الحزب، وهو ما تعبر عنه تدوينات مستاءة من مناضلي الحزب، خصوصا في قطاعه الشبيبي، كما نسجل أن منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، المقرب من الحزب، يقوم بوظيفة حفظ ماء وجه الحزب حقوقيا، إذ تظل مواقفه شبه متناغمة مع مواقف باقي الطيف الحقوقي، في ما يخص هذه التراجعات الحقوقية التي سجلت في السنوات الأخيرة. ما هي المقاربة الحقوقية التي ميزت ولايتي حزب العدالة والتنمية؟ لا أعتقد أن الحزب يتوفر على مقاربة حقوقية، سواء في الولاية الحالية أو التي قبلها، فالحزب يغلب مقاربة تطبيع علاقته مع القصر لتغدو خالية من أي ظلال شك متعلقة بولائه للملكية، على تصريف استراتيجية النضال الديمقراطي كما صاغها في مؤتمره ما قبل الأخير، وهذا السعي نحو إقناع القصر بهذا الولاء جعل الحزب في الولاية الثانية «العثمانية» يحاول تجسير علاقته مع الدولة العميقة (المخزن)، لذلك، غابت حتى مفردة «التحكم» التي ظهرت في ولاية بنكيران، والتي كانت إشارة إلى التمييز الذي كان يضعه بنكيران بين القصر وبين المخزن. فاليوم تحاول قيادة الحزب تبديد كل مخلفات ما كان يسمى سابقا بمواجهة التحكم، وبناء علاقات مع الدولة العميقة قائمة على التسليم لها بكل ما تقوم به، والإيحاء لها بأنها تفضل بناء توافقات معها عوض أي شكل من أشكال التوتر، لذلك، لا يمكن الحديث خلال هذه المرحلة عن أي مقاربة حقوقية للحزب في التعاطي مع الشأن العام، لأن هذه المقاربة ستعيد التوتر مع تعبيرات السلطوية المتنفذة. ولعل التطورات التي حدثت في المحيطين الجهوي والدولي، والمطبوعة بتراجعات حقوقية، وغياب ضغط دولي في هذا الاتجاه، وكذا محاصرة الثورات المضادة لتجارب الإسلام السياسي المشاركة في بعض حكومات المنطقة، كل ذلك جعل البيجيدي يخفض كثيرا مما بقي من نبرة نقدية لديه، حيث إنه يقلِّمها سنة بعد أخرى لجهة التطبيع الكامل مع الدولة العميقة. هل لايزال في خطاب «البيجيدي» ما يؤهله للدفع بالمسار الديمقراطي، أم إن المنظومة ابتلعته؟ إذا استمر الحزب على نهجه الحالي، فحتما سيكون مصيره شبيها لمصير الاتحاد الاشتراكي، وعليه أن ينتبه إلى أن مجموعة كبيرة من المواطنين والنخب والفعاليات التي دعمته في الانتخابات السابقة، رغم اختلافها الإيديولوجي معه، مدفوعة بهاجس الدفاع عن الديمقراطية في مواجهة «التحكم» و«الفساد»، لن تعاود الرهان عليه، لأنه فشل في حماية الهوامش الديمقراطية، كما استسلم أمام مركبات الريع والفساد، بل كان بمثابة الخادم الذي يأكل الأسياد الثوم بفمه، ويجب أن ننتبه إلى أن الأمر لا علاقة له فقط ببنية الحزب المحافظة سياسيا، والتي تجنح نحو تجنب الاصطدام ولو على حساب مصالح المواطنين وحقوقهم، بل كذلك بتشكل نخبة حزبية استفادت ماديا من المقاعد التي يحوزها الحزب في الحكومة والبرلمان والمجالس المنتخبة وهيئات الاستشارة والحكامة، وأصبحت هذه النخبة، التي تسلقت طبقيا، سدا أمام أي محاولة لانتشال الحزب من انحداره نحو التحول إلى حزب إداري. وأعتقد أن المؤتمر المقبل للحزب إما سيكون محطة للتصحيح، وإما إنه سيرسم طريق اللاعودة نحو التحول إلى حزب إداري يختلف عن النسخ المكررة للأحزاب الإدارية بامتلاكه قاعدة وبنية تنظيمية متينة، لكنه لا يوظفها في التفاوض النبيل، بل يقدمها للدلالة على أنه الأفضل لتمرير قرارات تصاغ في مطبخ الدولة العميقة.