مع هدوء أصوات المدافع، عاد المغرب للإمساك بالملف الليبي عبر بوابة الحوار والسياسة. المفاوضات التي دارت في بوزنيقة، أيام 6 و7 شتنبر الجاري، بين وفدي مجلس النواب في طبرق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس، شكلت خطوة مهمة في رأب الصدع بين الإخوة المتحاربين في ليبيا بدعم إقليمي ودولي. ويمكن القول بأن المبادرة المغربية تشكل خطوة تسعى إلى تحويل لحظة إطلاق النار إلى فرصة للتسوية السياسية، وهي استراتيجية اتبعها المغرب منذ 2015، حين احتضن اتفاق الصخيرات الذي أرسى المؤسسات الموجودة حاليا، ويبدو أن الرهان هو تعزيز شرعية المؤسسات الليبية القائمة، في خطوات ترمي، في الغالب، إلى عقلنة الصراع الليبي داخل المؤسسات الوليدة، بدل حالة الانفلات القائمة التي أودت بليبيا إلى حرب أهلية منذ خمس سنوات على الأقل. لكن هل تنجح لقاءات بوزنيقة في وضع الأزمة الليبية على سكة الحل والتسوية؟ وما أهمية الدور المغربي في هذا السياق؟ جرى الحوار الليبي الأخير في بوزنيقة بدعم أممي ورعاية مغربية. لكن لم يكن من السهل جمع وفدي طرفي الصراع حول طاولة واحدة، فقد سبق لرئيس مجلس النواب في طبرق ورئيس مجلس الأعلى للدولة في طرابلس أن اختلفا حول لقاء معلن خلال آخر زيارة لهما إلى المغرب في غشت الماضي، لكنهما وافقا على لقاء الطرفين بتمثيلية أقل، وهي خطوة مكنت المغرب من البناء عليها، إذ نجح في دفع طرفي التفاوض إلى إبرام توافقات كان من الصعب تصورهما قبل لقاء بوزنيقة، وهو ما اعترف به رئيس الوفد المتفاوض الذي يمثل المجلس الأعلى للدولة، عبدالسلام الصفراني، والذي سجل وجود سهولة في الحوار والاتفاق، على خلاف ما كان يعتقد البعض. لم يكن المغرب لينجح في دفع الحوار الليبي إلى الأمام بالشكل الذي أعلن عنه البيان الختامي، لولا موقفه الحيادي تجاه طرفي الصراع، وحرصه على وحدة ليبيا ومستقبلها، وهو الحياد المشهود له به سواء من قبل طرفي الأزمة الليبية، أو الملاحظين والمتتبعين للأزمة، الذين يؤكدون أن المغرب يكاد يكون البلد الوحيد بين الدول التي تسعى إلى حل للأزمة دون انحياز لأي طرف على حساب آخر، وهو ما أسهم في نجاح الجولة الأولى من حوار بوزنيقة. وقد أسفرت تلك الجولة عن اتفاق شامل حول المعايير والآليات المتعلقة بتولي المناصب السيادية في المؤسسات الرقابية الليبية. وتتمثل المؤسسات الرقابية، بحسب المادة 15 من اتفاق الصخيرات، في محافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام للدولة الليبية. وغني عن الذكر أن الانقسام الكبير في البلاد بين شرقها وغربها، قد انعكس سلبا على أغلب تلك المؤسسات السيادية، إن لم يكن كلها، حيث أصبحت منقسمة بين رأسين في الغالب. ويبدو أن هناك مؤسسات أخرى غير سيادية قد يتم إخضاعها لنفس آليات التعيين، من أبرزها المؤسسة الوطنية للنفط، والمؤسسة الليبية للاستثمار، بالنظر إلى ثقلهما الاقتصادي والمالي، والتنافس المحموم عليهما. وبحسب البيان الختامي للحوار الليبي، فقد اتفق طرفا الصراع على مواصلة اللقاءات واستئنافها في الأسبوع الأخير من شتنبر الجاري لاستكمال الإجراءات اللازمة بشأن تفعيل الاتفاق وتنفيذه. علما أن حوار بوزنيقة جرى بالتوازي مع حوار آخر في العاصمة السويسرية جنيف، بين وفود ليبية تسعى إلى البحث عن حل سياسي للأزمة الليبية بإشراف الأممالمتحدة. وتمثل تلك الوفود مختلف الشرائح والأطياف الليبية، اجتمعت لمواصلة الجلسات التي توقفت في مطلع فبراير الماضي، بسبب عزوف بعض ممثلي الأطياف الليبية في تلك الآونة عن المشاركة. وإذا كان حوار بوزنيقة قد ركز على وضع آليات تولي المناصب في المؤسسات السيادية الليبية، فإن حوار جنيف يسعى إلى تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطياف الليبية بهدف وضع تصور للمجلس الرئاسي الجديد وحكومة وحدة وطنية. وبحسب مصادر ليبية، فإن حوار بوزنيقة وحوار جنيف سيسيران بالتوازي لبحث ملف المناصب السيادية وإعادة تشكيل المجلس الرئاسي، إلى حين الاتفاق على كل القضايا الملحة، التي ستسمح بإعلان اتفاق شامل يضع ليبيا على سكة الصراع السياسي السلمي بدل الحرب والاقتتال. تكامل الحوار بين بوزنيقةوجنيف أنعش الأمل مجددا في التوصل إلى اتفاق تحت رعاية الأممالمتحدة، ويتجلى ذلك في مواقف الدعم التي عبّرت عنها دول عدة للمبادرة المغربية، على رأسها الأممالمتحدة التي أعلنت دعمها لحوار بوزنيقة، وكذا الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي يبدو أنها بقوة لكي تمسك بتلابيب الملف الليبي، بعدما تعقد أكثر، بسبب تدخل قوى دولية وإقليمية مثل روسياوتركيا وفرنسا. فقد وصف مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، ما يجري في ليبيا بأنه يشبه إلى حد كبير "سوريا ثانية"، في إشارة إلى تأثير الوجود الروسي غير المباشر، مؤكدا أن "الأتراك يقفون في وجه الروس، لكن هناك مرتزقة روس من مجموعة فاغنر، إضافة إلى وجود الإماراتيين والمصريين، وكان هناك فرنسيون"، مشيرا إلى أنه يخصص وقتا طويلا مع وزير الخارجية، مايكل بومبيو، للملف الليبي، وأن الأخير يبحث باستمرار الملف الليبي مع نظيريه البريطاني والفرنسي. وحول نتائج الحوار الليبي في بوزنيقة قال شينكر: "من الصعب أن نكون متفائلين حيال ذلك، ولكننا ندفع قدما، في محاولة لتحقيق مكاسب صغيرة على الأرض"، في إشارة إلى إنجاح المقترح الأمريكي بشأن إخلاء سرت والجفرة من السلاح.. رغم ذلك الموقف الأمريكي الحذر، إلا أن الليبيين يرون أن حوار بوزنيقة يعد الأكثر نجاعة، ويمكن أن يشكل أرضية صلبة لعملية سياسية جديدة. في هذا السياق، يرى الأكاديمي الليبي، خليفة الحداد، أن "لقاءات المغرب الأكثر نجاعة، ويمكن أن تصل إلى تفاهمات حول توحيد المؤسسات السيادية المنقسمة منذ ست سنوات"، قبل أن يستدرك بالتعبير عن مخاوفه من إمكانية إفشال حفتر لكل هذه الجهود، في الوقت الذي تخلى فيه حلفاؤه الكبار عنه، وعلى رأسهم مصر، التي أبدت ميلا واضحا لإمكانية التقارب مع كل الأطراف الليبية لإيجاد حل يبعد شبح الفوضى الليبية عن أمنها"، معتبرا أن وصول وفد ليبي من طرابلس إلى القاهرة "دليل واضح على ذلك". ولفت الأكاديمي الليبي إلى أن "تصريح شينكر حول استمرار تأزيم أطراف خارجية للأوضاع في ليبيا يعني عدم وجود توافق دولي حقيقي حول نقل الأزمة الليبية إلى الصعيد السياسي للبحث عن حلول متفق عليها لها، وهو يعني أيضاً استمرار الخصومة الأمريكية الروسية في ليبيا، التي لن يتمكن فرقاء الأزمة الليبية من حلها"، معتبرا أنه "سبب آخر لصمت البعثة الأممية حتى الآن حيال اللقاءات الجارية بين الممثلين الليبيين". بدوره، اعتبر سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فاس، أن استضافة المغرب لقاء بوزنيقة تؤكد مرة أخرى أنه "الوسيط الذي يحظى بثقة مختلف الأطراف الليبية نظرا إلى حفاظه على المسافة نفسها مع مختلف المتنازعين، وهو المؤهل حاليا لقيادة الوساطة بين الليبيين للوصول إلى الحل السلمي للنزاع". لكن الصديقي اعتبر، أيضا، أن هناك "عوائق" أمام الوصول إلى الحل السلمي، أبرزها "تنوع المتدخلين الدوليين في الملف الليبي وتأثيرهم على الأطراف المتنازعة". ويرى الصديقي أنه "لا يكفي أن تعبر بعض الأطراف الليبية عن نيتها وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات، بل تحتاج الأزمة الليبية إلى توافق دولي حقيقي على سبل حلها، ولاسيما من قبل الدول التي تدعم بالسلاح والمال الأطراف المتنازعة". لهذا، يذهب الصديقي إلى أن نجاح حوار بوزنيقة في تسوية الأزمة يتطلب "دعم القوى الدولية التي لها تأثير في الميدان، وعلى رأسها كل من تركياوروسيا؛ لذلك، فإنه بالإضافة إلى العمل الكبير الذي يقوم به المغرب لجمع الليبيين على طاولة المفاوضات المباشرة، فإنه يحتاج، أيضا، إلى إقناع الفاعلين الدوليين بضرورة دعم جهوده الدبلوماسية". مهما يكن، فإن التوصل إلى اتفاق حول معايير التعيين في المؤسسات السيادية يعد خطوة مهمة، يمكن أن تليها خطوات أخرى في اتجاه الحل السياسي الشامل. ولهذا، جاء في بلاغ طرفي الحوار الليبي في بوزنيقة دعوتهما المشتركة للأمم المتحدة وللمجتمع الدولي إلى دعم جهود المغرب الرامية إلى توفير الظروف الملائمة، وخلق المناخ المناسب للتوصل إلى "تسوية سياسية شاملة في ليبيا"، وهي تسوية يرى المغرب أنها لا يمكن أن تكون إلا ليبية، لأن التدخلات الخارجية لا تزيد الوضع إلا تفاقما، من خلال اتفاق أعمق حول الدستور، والتحضير للانتخابات برلمانية، لإفراز الحكومة. إنها تسوية ممكنة إذا صدقت النوايا، وجرى تغليب المصلحة الوطنية الليبية. وستكون هناك فرصة للمضي قدما في تطبيق اتفاق بوزنيقة خلال لقاء الليبيين المقبل نهاية شتنبر الجاري، وقد يفتح ذلك الباب أمام التقدم نحو مفاوضات سياسية نهائية. راهنية الدور المغربي على الرغم من محدودية الحوار الليبي في بوزنيقة، كما يمكن استنباط ذلك من الموقف الأمريكي، بالنظر إلى المواقف الدولية والإقليمية المتضاربة، إلا أن احتضان المغرب لحوار بوزنيقة يجعله مرة أخرى في قلب الأزمة الليبية والرهانات المتعلقة بها. وهكذا يكون المغرب قد تجاوز محاولات إبعاده، كما جرى في مؤتمر برلين في يناير 2020، وكذا محاولات الدوس على مخرجات اتفاق الصخيرات في نهاية 2015، واستطاع من خلال مخرجات الاتفاق الجديد في منتجع الباهية ببوزنيقة أن يثبت، بدعم أممي، اتفاق الصخيرات وأن يضيف إليه مقتضيات جديدة ترمي إلى تعزيز البناء المؤسساتي في الدولة الليبية المنتظرة. يمكن القول إن حوار بوزنيقة أكد فرضية قوية تزعم أن الدور المغربي في ليبيا يتعزز ويتقوى في لحظة السلم ويخفت في لحظة الحرب. فمنذ إعلان وقف إطلاق النار منذ يونيو 2020، انتهز المغرب الفرصة للدفع بالوضع السياسي الليبي إلى البحث عن تسوية جديدة تنهي المأساة الليبية المستمرة منذ عشر سنوات، عبر دفع أطراف الصراع إلى إجراء حسابات جديدة أكثر عقلانية وواقعية، وهو التوجه الذي عبّر عنه المغرب بوضوح أكبر في ثلاث محطات على الأقل خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2020: الأولى، حين فشلت قوات شرق ليبيا أو ما يعرف ب"الجيش الوطني الليبي" في اقتحام طرابلس والسيطرة عليها منذ دجنبر 2019، ما جعل طرفي الأزمة في فبراير 2020 يدعوان إلى الحوار مجددا، حيث استضافت الرباط وزير خارجية الحكومة المؤقتة غير المعترف بها دوليا، عبدالهادي الحويج، يوم 7 فبراير 2020، الذي عبّر عن رغبة الطرف الذي يمثله في شرق ليبيا بأن يلعب المغرب دورا أكبر في الملف الليبي، مؤكدا دعمه "للمقاربة المغاربية في حل الأزمة الليبية، كمقاربة وحيدة، حسب تعبيره، قادرة على الوصول إلى حل دائم". في حين تتمثل المحطة الثانية في الاقتراح الذي تقدم به وزير الخارجية والتعاون، ناصر بوريطة، في اجتماع الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية يوم 23 يونيو 2020، ويقضي بتشكيل "فريق عربي مصغر" من الدول المعنية بالأزمة الليبية، ويتولى وضع تصور استراتيجي للتحرك العربي الجماعي للإسهام في التسوية في ليبيا والانفتاح على الأطراف الليبية كافة، والاستماع إليها، وتقريب وجهات نظرها. وقال بوريطة "هل يمكن تخطي اتفاق الصخيرات من دون بديل، ينال على الأقل القدر نفسه من التأييد الليبي والدولي، علما أن هذا الاتفاق يتضمن بنودا أصبحت متجاوزة، وتحتاج إلى تحديث"، مستطردا: "إذا جرى تجاوز هذا الاتفاق السياسي الليبي، فكيف سنتعامل، في أي إطار كان مستقبلا، مع الأطراف الليبية التي تستمد أصلا شرعيتها منه؟". أما المحطة الثالثة، فقد جرت بعد إعلان وقف إطلاق النار بين قوات شرق ليبيا وقوات حكومة الوفاق الوطني منذ يونيو 2020 على تخوم مدينة سرت، حيث استدعى المغرب يومي 26 و27 يوليوز 2020 كلا من رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، من أجل "تقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية"، وإطلاق مشاورات جديدة بين المغرب وأطراف الأزمة الليبية، في أفق إطلاق حوار سياسي جديد. وقد أفضى اللقاء غير المباشر بين المشري وصالح إلى تمهيد الطريق أمام حوار بوزنيقة الذي أحرز توافقات مهمة، قد تستكمل في لقاءات قادمة نهاية هذا الشهر وربما بعده. الليبيون يعترفون بالدور المغربي إن استقراء المعطيات المتاحة حول الدور المغربي في الأزمة الليبية، خلال السنوات الأخيرة تبرز أنه كلما حصل جنوح نحو السلم والحل السياسي بين أطراف الأزمة، كلما برز الدور الدبلوماسي المغربي أكثر، بل وتبرز الحاجة إليه، بدليل أنه دور حظي طيلة السنوات الماضية بالقبول لدى كل الأطراف الليبية المتصارعة، ويعود ذلك، في الغالب، إلى نهجه الحيادي في الصراع، وانفتاحه على جميع الأطراف دون تحيز، وصمود مواقفه رغم التعقيدات التي بلغتها الأزمة. وبالمقابل، تكشف المعطيات عينها أنه كلما ارتفع صوت السلاح والقتال بين أطراف الأزمة في ليبيا، بتحريض إقليمي ودولي أساسا، كلما خفت الدور المغربي، متحصنا بموقفه المبدئي الرافض للغة السلاح والقتال، دون أن يغير شيئا من مواقفه المعلنة التي تؤكد على المدخل السياسي لتسوية الأزمة، وعلى وحدة ليبيا الترابية والوطنية، وعلى الموقف الحيادي إزاء مختلف القوى المتصارعة، وهي المواقف التي أكسبته مصداقية في الدور الذي يقوم به وجعلته مطلوبا كلما حضر صوت العقل..