في سياق النقاش الجاري حول النموذج التنموي، الذي تعده اللجنة الملكية التي يرأسها شكيب بنموسى، كشف المجلس الوطني لحقوق الإنسان، يوم الاثنين 4 غشت عن مذكرته التي قدمها للجنة، والتي دعا فيها إلى اعتماد مقاربة تنموية دامجة لحقوق الإنسان. وحسب المذكرة، فإن دمج حقوق الإنسان يجب أن يتم على مستويين متكاملين: مستوى السياسة العامة والاختيارات الاستراتيجية الأساسية للدولة من جهة، ومستوى السياسات العمومية، من جهة ثانية. ويقترح المجلس أن تقوم الاختيارات التنموية على جعل احترام حقوق الإنسان "أحد ثوابت الاختيارات الاستراتيجية للدولة" المنصوص عليها في الفصل 49 من الدستور. وفيما يتعلق بالسياسات العمومية، فإن المجلس يرى أن المنهجية الأكثر ملاءمة، هي اعتماد مقاربة مبنية على حقوق الإنسان المعروفة بمبادئ PANEL ، وهي "المشاركة، المساءلة، عدم التمييز، التمكين والشرعية"، ويقترح إضافة مدخلين آخرين، يتعلق أحدهما بالجانب الثقافي والقيمي ويمس الآخر المدخل المتعلق بالاستدامة . وفيما يتعلق بأدوار الدولة في تعزيز الحقوق بعد جائحة كورونا، يرى المجلس أنه يجب الاعتراف بأن تجربة مواجهة جائحة كوفيد19 فرضت نفسها على التشخيصات المتعلقة ب"محدودية النموذج التنموي الحالي" وعلى كل المقاربات النظرية التي يتوخى من خلالها بناء نموذج بديل. واعتبر المجلس أن الجائحة في الواقع "أصبحت تفرض إعادة ترتيب جذرية لأولويات الاختيارات الكبرى للدول"، وهي بذلك تشكل "فرصة حقيقية لإحداث تحول حقيقي في طريقة النظر إلى التنمية". وهنا يوصي المجلس ببناء "دولة استراتيجية وحامية للحقوق"، وإقرار نظام جبائي عادل ومتضامن"، و"تكريس التوجه نحو الاقتصاد التضامني"، و"دعم المرفق العمومي كرافعة لتقليص التفاوتات وتعزيز التضامن"، و"ضمان ولوج المهاجرين وطالبي اللجوء للحقوق الإنسانية الأساسية". مفارقة بين القانون وواقع الحقوق يسجل المجلس في مذكرته، كذلك، وجود "معوقات فعلية في حقوق الإنسان في المغرب" تتمثل في "صعوبات في ترجمة الترسانة القانونية إلى ضمانات فعلية لحماية الحقوق والحريات"، التفاوتات في الولوج للحقوق كمصدر للتوترات الاجتماعية"، و"ضعف البعد الحقوقي للسياسات التنموية"، و"انحسار قيم الديمقراطية والمواطنة والسلوك المدني"، فضلا عن هاجس الاستدامة. وانطلاقا من ذلك، يقترح المجلس خمسة مرتكزات لتعزيز "فعلية الحقوق والحريات"، هي أولا، فعلية الحقوق كشرط لتحقيق المواطنة وتجديد العقد الاجتماعي. ثانيا، اعتماد مقاربة استباقية في حماية وتعزيز الحقوق والحريات. ثالثا، الوعي بتداخل حقوق الإنسان والتنمية. رابعا، رفع تحدي التقائية الفاعلين والبرامج والسياسات، خامسا، الأساس القيمي لفعلية الحقوق "كضرورة لإرساء عقد اجتماعي جديد". ويرى المجلس أنه لجعل احترام الحقوق والحريات منطلقا للاختيارات التنموية ونتيجة لها في الوقت عينه، يجب"إحداث نوع من القطيعة" مع المقاربات الفوقية في التعامل مع هذه السياسات، وذلك عبر تأسيسها على "منظومة من القيم" التي تحكم العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع. ويرى المجلس أن النموذج التنموي ينبغي أن يبنى على القيم التالية: أولا، قيمة الحرية كأساس لكل فعل تنموي، فرغم أن التعديلات الدستورية المتوالية التي عرفها المغرب قد "ساهمت في ترسيخ هذا التوجه"، إلا أن المجلس يؤكد أن "التحولات المجتمعية" المتسارعة في بلادنا، خلال العقود القليلة الماضية، "أصبحت تفرض أكثر من أي وقت مضى، بذل المزيد من الجهد، سواء على مستوى الاختيارات الإستراتيجية للدولة أو على مستوى السياسات العمومية في اتجاه "جسر الهوة بين النصوص والواقع"، بما يضمن مزيدا من تكريس الحريات العامة والفردية في الواقع المعيش . ثانيا، قيمة المساواة، فرغم الجهود المبذولة على مستوى ملاءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية ذات الصِّلة بالحق في المساواة وعدم التمييز، "إلا أن واقع المساواة بين الجنسين في بلادنا لازال يعرف عدة صعوبات"، فحسب "تقرير الفجوة الجندرية العالمي" الصادر سنة 2019، فإن المغرب يحل في المرتبة 137 من أصل 149 شملها التقرير. ومع أن التقرير يسجل تقدم المغرب على مستوى مؤشر المشاركة والفرص الاقتصادية ومؤشر التحصيل العلمي، فإنه بالمقابل يؤكد "وجود صعوبات كبيرة على مستوى المؤشرين الآخرين، وهما مؤشر التمكين السياسي ومؤشر الصحة والقدرة على البقاء". كما أن المغرب لازال يحتل مرتبة متدنية مقارنة مع دول المنطقة مثل الجزائر (الرتبة 128) وتونس (الرتبة 119) ومصر في الرتبة 135. التفاوتات مصدر للتوترات الاجتماعية ثالثا، قيمة العدالة: يرى المجلس أن التفاوتات بشقيها الاجتماعي والمجالي "أصبحت مصدرا للعديد من التوترات" التي تتمظهر من خلال مجموعة من التعبيرات الاجتماعية الجديدة التي تعرفها بلادنا في السنوات الأخيرة، وهو ما يبرز الحاجة إلى "إرساء نظام اجتماعي أكثر عدلا". واعتبر المجلس أن العدالة كقيمة مؤسسة للتنمية العادلة والشاملة "لا تتحقق إلا من خلال مقاربة تضمن استفادة الفئات الأكثر تهميشا وحرمانا من الحقوق الإنسانية الأساسية". رابعا، قيمة التضامن: يدعو المجلس إلى تكريس قيمة التضامن في الاختيارات الإستراتيجية لبلادنا وجعلها في صلب السياسة العامة للدولة ودعامة أساسية للسياسات العمومية في كل مجالات تدخل الفاعل العمومي. ويدعو المجلس إلى "تجاوز النظرة الإحسانية لفكرة التضامن"، وهو ما يقتضي "القطع مع المنظور الخيري" للتضامن والتعامل معه كحق من حقوق الإنسان؟ مقاربة حقوقية للفقر ومن جهة أخرى، يرى المجلس أن بناء نموذج تنموي جديد يقتضي إعادة تحديد الأولويات من خلال "التعامل مع ظاهرة الفقر كشرط قبلي لتحقيق التنمية"، وهو ما يعني "التركيز على مواجهة الأسباب غير الاقتصادية للفقر"، مثل العوامل الثقافية القيمية، البيئية والسياسية المتعلقة بأساليب تدبير الشأن العام وأنظمة الحكامة. واعتماد المقاربة الحقوقية في محاربة الفقر، وهو ما يعني أن الاختيارات التنموية البديلة ينبغي أن تقوم على "تصور للفقر باعتباره خرقا لحق من حقوق الإنسان"، وهو الحق في التنمية، الأمر الذي يقتضي معه إحداث "قطيعة مع المقاربة القائمة على الدعم والمساعدة الاجتماعيين"، والاعتماد بدلا عن ذلك، المقاربة القائمة على "تمكين الفقراء عوض الاكتفاء بمساعدتهم". كما يدعو المجلس إلى "جعل الإنسان منطلقا للتنمية وغاية لها"، وتخصيص العشرية المقبلة 2020-2030 للنهوض بالحقوق الإنسانية الأساسية، واعتبار الصحة والتعليم "أولويات قصوى"، وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على باقي الحقوق الأخرى، وسيساهم بشكل كبير في تقليص التفاوتات المجالية والاجتماعية.