في مثل هذه الأيام، قبل ثلاثين عاما، نبتت للرئيس العراقي أجنحة، وحشد قواته على الحدود مع الكويت استعدادا لاحتلالها، متحديا كل الخطوط الحمراء. أحيانا، تتوهم النملة أنها نسر، بمجرد ما تنبت لها أجنحة، لا تستوعب أنها ليست حتى نحلة، وأن كل ما في الأمر أن "الله ملي كيبغي يعذب النملة كيدير لها الجنحين"... في 2 غشت 1990 دخلت قوات صدام حسين إلى الكويت. احتلت الجار الأصغر في غضون ساعات، وبعد ستة أشهر ودعوات فاشلة للانسحاب، وجد العراقيون أنفسهم يواجهون تحالفا عسكريا واسعا بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، لتبدأ ما سميت ب"حرب الخليج الثانية". فجر 17 يناير 1991، بدأ القصف على بغداد. كانت القذائف تنهال على عاصمة العباسيين، فيما ملايين الحشود في القارات الخمس تصرخ ضد "الإمبريالية" وتهتف بكل اللغات: "يكفينا يكفينا مِن الحروب/ أمريكا أمريكا عدوة الشعوب"، "أنا جمرة سأحرقهم كما حرقوك يا بغداد...". كنا في الثانوية، وشعرنا بتعاطف جارف مع هذه المدينة، التي كان اسمها مرادفا للبطولة، قبل أن يحولها التتار الجدد إلى اسم آخر للتطرف. مزيج من السذاجة والحماس والرغبة في الصراخ، جعلنا نخرج إلى الساحة كي نحتج. على من؟ لا أحد كان يعرف. كنا نريد أن نكبر بسرعة، أن نصبح "رجالا"، والطريق إلى الرجولة يمر من الإضرابات والتظاهرات، لذلك وجدناها فرصة ذهبية للاحتشاد وسط الثانوية، بعدما تعبنا من الصراخ في الساحة، أخرجنا التظاهرة إلى الشارع وتبعتنا سيارات الشرطة، حين بلغنا وسط المدينة نزل أفراد الأمن من الشاحنات وهم يتحسسون "زرواطاتهم"، وبدأ التلاميذ تلقائيا في الهروب، لتتحول التظاهرة إلى كر وفر، ومطاردات بين قوات الأمن والتلاميذ المذعورين. كنا ندخل أي بيت نجده مفتوحا تفاديا لهراوات رجال الأمن المسعورين... لم نكن نملك وعيا سياسيا يؤهلنا لفهم ما يجري في أكثر المناطق تعقيدا على الكرة الأرضية، لكننا كنا نملك الحناجر والحماس، وكنا نفتش عن بطل ووجدناه: صدام حسين. دخل في أربعة وعشرين ساعة إلى الكويت "الرجعية" وحولها إلى "مقاطعة عراقية"، نكاية في "الإمبريالية"، التي كنا نشتمها دون أن نعرف إن كانت دولة أو قارة أو مجرد امرأة شريرة! كنا "نكره إسرائيل"، كما يكرهها المرحوم شعبان عبدالرحيم، وكان صدام بطلا في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، أكثر الصحف تأثيرا على الرأي العام، أيام كان المغرب بالأبيض والأسود، ومناضلو اليسار كلهم معه، لذلك وجدنا أنفسنا في ساحة الثانوية نهتف باسمه ونتوسل إليه أن "يدمر تل أبيب": "يا صدام يا حبيب/ دمِّر دمِّر تل أبيب". كنا نسمع صفارات الإنذار تدوي في نشرات الأخبار، والإسرائيليون يهرعون إلى مخابئهم وننتشي: أخيراً وجد الصهاينة من ينتقم منهم! كان واضحا أن صواريخ "سكود"، التي يطلقها العراقيون لا تصيب أحدا، أقصى ما تحدثه هو حفرة يتجمع حولها رجال الأمن والإسعاف، دون أن يموت أحد. نحن الذين متنا في النهاية من الملل، ونحن نشاهد صواريخ صدام التي لا تنفجر، وننتظر أن يفاجئ العدو، مثلما وعدنا في خطبه، قبل أن يفاجئنا نحن وهو يعلن بصوته الأجش، مخاطبا جنوده "النشامى": "انسحبوا إنشاء الله منتصرين...". قبل أن تبدأ الحرب، ألقى الحسن الثاني خطابا بليغا يبرر مشاركة الجنود المغاربة ضمن قوات التحالف، وجه خلاله كلاما مباشرا إلى الرئيس العراقي المنتشي بأجنحته، يدعوه للخروج من الكويت وكرر عدة مرات: "أناشدك أخي صدام!"، قبل أن يضرب له مثلا مغربيا دامغا: "الحمية كتغلب السبع"... لكن صدام كان قد تحول إلى سبع بلا أنياب، وبدأ رحلته الطويلة إلى الجحر الذي سيخرجونه منه بعد أكثر من عشر سنوات، بلحية مشعثة ونظرات مشدوهة، وسيفحصه "مول البيل"، في صور قال عنها الحاقدون إنها الأولى التي تلتقط لشخص ما في "مزبلة التاريخ"!