كنا في الثانوية حين بدأتْ قوات التحالف الدولي تقصف بغداد عام 1991، فيما الجماهير في ساحات وشوارع القارات الخمس تهتف ضد «الإمبريالية» وتصرخ بكل اللغات: «يكفينا يكفينا مِن الحروب / أمريكا عدوة الشعوب»، «أنا جمرة سأحرقهم كما حرقوك يا بغداد...»، وحين تقترب الحشود من السفارة الفرنسية يصيح المحتجون بلكنة مكسرة: «جورج بوش أساسان ميتران صُون شْيان»... التحالف الدولي ضد العراق في نسخته «البعثية»، كانت تقوده الولاياتالمتحدة في طبعة جورج بوش الأب وبريطانيا جون ميجور وفرنسا فرانسوا ميتران، بمشاركة دول الخليج قاطبة ومعظم البلدان العربية من مغرب الحسن الثاني إلى سوريا حافظ الأسد. عدد ضخم من الجيوش والطائرات والبوارج الحربية، قلما حشدت لقتال شخص واحد. ولا يسع الإنسان وهو يستحضر تلك الأيام إلا أن يتساءل: كيف استطاع تحالف «آل بوش» أن يسقط صدام حسين بقوته وجبروته -علما بأن الرجل كان على وشك امتلاك القنبلة الذرية- ويعجز تحالف أوباما عن تطهير العراق من بضعة ملتحين يلعبون بالنار والسكاكين في الموصل، كل رصيدهم أسلحة وأفكار بدائية؟ «فهم تسطى»! في فجر السابع عشر من يناير 1991، بدأت قوات التحالف تقصف بغداد، وشعرنا نحن التلاميذ بتعاطف جارف مع هذه المدينة، التي كان اسمها مرادفا للبطولة، قبل أن يحولها التتار الجدد إلى اسم آخر للتطرف. مزيج من السذاجة والحماس والرغبة في الصراخ، جعلنا نخرج في حشود إلى الساحة كي نحتج. على من؟ لا أحد كان يعرف. لم نكن نملك وعيا سياسيا يؤهلنا لفهم ما يجري في أكثر المناطق تعقيدا على الكرة الأرضية، لكننا كنا نملك الحناجر والحماس، وكنا نفتش عن بطل ووجدناه: صدام حسين. دخل، في أربع وعشرين ساعة، إلى الكويت «الرجعية» وحولها إلى مقاطعة عراقية، نكاية في «الإمبريالية» التي كنا نشتمها دون أن نعرف إن كانت دولة أو قارة أو مجرد امرأة شريرة! كنا «نكره إسرائيل»، كما يكرهها شعبان عبد الرحيم، وكان صدام بطلا في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، أكثر الصحف تأثيرا على الرأي العام أيام كان المغرب بالأبيض والأسود، ومناضلو اليسار كلهم معه، لذلك وجدنا أنفسنا في ساحة الثانوية نهتف باسمه ونتوسل إليه أن «يدمر تل أبيب». كنا نسمع صفارات الإنذار تدوي في نشرات الأخبار، والإسرائيليون يهرعون إلى مخابئهم وننتشي: أخيرا وجد الصهاينة من ينتقم منهم! كان واضحا أن صواريخ «سكود» التي يطلقها العراقيون لا تصيب أحدا، أقصى ما تحدثه هو حفرة يتجمع حولها رجال الأمن والإسعاف، دون أن يموت أحد. نحن الذين متنا في النهاية من الملل ونحن نشاهد صواريخ صدام التي لا تنفجر، وننتظر أن يفاجأ العدو، مثلما وعدنا في خطبه، قبل أن يفاجئنا وهو يعلن بصوته الأجش، مخاطبا جنوده «النشامى»: «انسحبوا إن شاء الله منتصرين...» كنا نريد أن نكبر بسرعة، أن نصبح «رجالا». والطريق إلى الرجولة يمر من الإضرابات والتظاهرات والشعارات، لذلك وجدناها فرصة ذهبية للاحتشاد وسط الثانوية، بعد أن تعبنا من الصراخ في الساحة، أخرجنا التظاهرة إلى الشارع وتبعتنا سيارات الشرطة، حين بلغنا وسط المدينة نزل أفراد الأمن من الشاحنات وهم يتحسسون «زرواطاتهم»، وبدأ التلاميذ تلقائيا في الهروب، لتتحول التظاهرة إلى كر وفر، ومطاردات بين قوات الأمن والتلاميذ المذعورين. كنا ندخل أي بيت نجده مفتوحا تفاديا لهراوات جال الأمن المسعورين... قبل أن تبدأ الحرب، ألقى الحسن الثاني خطابا بليغا يبرر مشاركة الجنود المغاربة ضمن قوات التحالف، وجه خلاله كلاما مباشرا إلى الرئيس العراقي المنتشي بقوته، يدعوه إلى الخروج من الكويت وكرر عدة مرات: «أناشدك أخي صدام»، قبل أن يضرب له مثلا مغربيا دامغا: «الحمية كتغلب السبع»... لكن صدام كان قد تحول إلى سبع بلا أنياب، وبدأ مشواره الطويل إلى الجحر الذي سيخرجونه منه بعد أكثر من عشر سنوات، بلحية مشعثة ونظرات مشدوهة، وسيفحصه «مول البيل»، في صورة قال عنها الحاقدون، إنها الأولى التي تلتقط لشخص في «مزبلة التاريخ» الشهيرة !