قبل واحد وعشرين عاما، دفعت باب حزب «الاتحاد الاشتراكي» لأول مرة. كان ذلك مجرد صدفة. الحقيقة أن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب هو من قادني إلى المقر. كنت مراهقا ساذجا، لا أعرف من زرع في رأسي أن الشعر أعظم مهنة في التاريخ، وأن «ما يبقى يؤسسه الشعراء». كنت ألتهم كل ما أصادفه من دواوين، وفي مقدمة الأعمال الكاملة للسياب قرأت أنه كان شيوعيا، قاد مظاهرات وهو بعد تلميذا في الثانوية. ولأنني أريد أن أصبح شاعرا، قررت أن أصنع مثله... الشاعر العظيم يمر من الحزب العظيم والمشاركة في أمسيات شعرية صاخبة تمر من المشاركة في تظاهرات ثورية صاخبة، وكل الشعراء الكبار مروا من حزب ما: أدونيس والماغوط والخال في الحزب القومي السوري، والسياب والجواهري وسعدي يوسف في الحزب الشيوعي العراقي، ودرويش والقاسم وتوفيق زياد في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وأراغون وإيليوار وبروتون في الحزب الشيوعي الفرنسي، وعبد الرفيع جواهري والحبيب الفرقاني والوديع الأسفي في «الاتحاد الاشتراكي»... أما الأشعري فلم أكن أعرفه، لكنني كنت أعرف أنني أريد أن أصبح مثل هؤلاء. في أبريل 1991، ذهبت إلى مقرّ حزب «الاتحاد الاشتراكي» بمدينتنا، ووجدت المناضلين يستعدون لتخليد ذكرى فاتح ماي. كوفيات على الأعناق، كراس عتيقة وأناشيد طول النهار: «حيوا صمود السيديتي...حيوا النضال المستمر»... قبلها بعدة أسابيع، كانت الطائرات الأمريكية تقصف المباني والأحلام «البعثية» في العراق، ونحن نرقص غضبا وانفعالا ونردد الشعارات. في الصباح الموالي لانطلاق القصف الأمريكي على بغداد، أخرجت تظاهرة حاشدة من الثانوية، مثل بدر شاكر السياب. كنا نهتف بصوت واحد، مثل جيش من المتطوعين: «يا صدام يا حبيبْ، دمر دمر تل أبيبْ»، ويبدو لنا النصر قريبا جدا. نتلقف الأخبار طازجة من إذاعة «ميدي 1» ونرقص نشوة كلما سقط صاروخ على تل أبيب. في التلفزيون، كنا نرى جيدا أن صاروخ «سكود» لا يقتل أي إسرائيلي. لا ينفجر حتّى. أقصى ما يحققه ثقب على الأرض، يشبه قادوس واد حار. لكن ذلك لا يمنعنا من أن نفرح، لأن صدام ينتصر كل يوم في جريدة الحزب، وعلى أفواه المناضلين، وفي أوهامنا. ونحن كنا نرى العالم من بين سطور الجريدة. الجريدة التي كانت تنقضي دقائق معدودة بعد توزيعها. كان العالم بالأبيض والأسود، مضغوطا ومثيرا بشكل لا يصدق، مثل عنوان بارز على الصفحة الأولى. بدأت أكتب بلا توقف، قصائد من نوع هيليكوبتر، عمودية، تسقط على رؤوس تلاميذ الثانوية. صرت لسان قبيلة في القرن الحادي والعشرين، قبيلة من المتحمسين. كنت أتخيلني مثل امرئ القيس أو طرفة بن العبد أو المهلهل بن ربيعة، أتفاخر وأمجّد وأمدح وأهجو... مثل المتنبي، مثل أبي تمام، مثل الأخطل والفرزدق وجرير، وبقية «المحتالين». أمسيات شعرية كل أسبوع، نشتم فيها الأمريكان وإسرائيل وحكام العرب «النعاج»، نردد الأغاني الثورية ونرفع الشعارات ونقرأ قصائدنا السخيفة: «والجرح تفتق في إبائي... أرعفته عاصفة الصحراء»... من البحر الخفيف، من فضلك، فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن. كنت قد تعرفت للتو على أوزان الخليل، بعدما تمكنت من الحصول على نسخة من «ميزان الذهب في صناعة شعر العرب». فرحت بتطبيق ما يقوله جدّنا الفراهيدي. كلما صعّدت من شتائمي، تضج القاعة بالتصفيق ويصيح المتحمسون: «أعد... أعد...»، كأنني مطرب في كاباري: «أيها الحجاج واشنطن غدت ما تقصدون في حجكم والدعاء // لا تزوروا بعد البلاء المدينة ولا تقفوا بغار حيراء // فالخير من أهلها واليهود بينهم ريح يبعثها حذائي // إن غفرت للعجم عدوانهم لست بغافر فعلة العملاء // قد يهون غدر العدو لكن لا يهون غدر من الأصدقاء»... وضعت الحروب أوزارها، انهزم صدام حسين وانتصرت جريدة الحزب. فهمت أن العالم أكثر تعقيدا مما أتصور، وأن واحد زائد واحد يساوي كل الأرقام، ماعدا اثنين.