يعيش العالم حالة استثنائية جعلت حياة الإنسان على المحك، وجعلت الصحة العامة على رأس أجندة المنتظم الدولي. فظهر نقاش ما يسمى بترتيب الأولويات وجدل العلاقة بين حماية الحق في الحياة، وحماية الحريات من جديد . قد تدفع الأزمات الكبرى عادة الإنسان إلى اختيارات لم تكن في الحسبان، فيصطدم بواقع جديد لا يجيد قراءته كما قال درويش. هذا الواقع الذي يطرح أسئلة جوهرية حول مآل حقوق الإنسان في ظل حالة الطوارئ، ويرسم مخاوف جديدة حول الوضعية الحقوقية في ظل هذه التدابير الاستثنائية. يكفل القانون الدولي للدول اتخاذ تدابير لمنع تهديد الصحة العامة وحماية صحة الأفراد، لكن هذا القانون يشترط، أيضا، احترام بعض المعايير الأساسية لضمان احترام كل الحقوق الإنسانية . لهذا يجب أن تُبنى التدابير الاستثنائية التي يجري اتخاذها في ظل حالة الطوارئ على أساس قانوني، كما يجب أن تكون ضرورية للغاية، مبنية على أدلة علمية، محددة في الزمان، غير تمييزية، غير تعسفية وتحترم كرامة المواطن. إنها الشروط التي وضعتها “مبادئ سيراكوزا”، والتي اعتمدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة عام 1984، والتعليقات العامة للجنة حقوق الإنسان الأممية بشأن حالة الطوارئ وحرية التنقل . نقاش الأولويات في مجال حقوق الإنسان معقد للغاية، لأن الحقوق في أصلها هي كل غير مجزأة ومتصلة فيما بينها، ومن أجل تحقيقها لا يمكن أن نتبنى “نظرية الأولويات”، بل يجب أن نطبق “نظرية الجدل” لفهم وتطبيق شمولية الحقوق وعدم تمايزها. إن “نظرية الأولويات” تجعل مجال خرق الحقوق الإنسانية مفتوحا وغير مقيد، بل وقد تؤدي في أحايين كثيرة إلى شرعنته وتبريره والتطبيع معه. يقول أستاذ التاريخ “فلوريان بيبر” في مقال له على “فورين بوليسي: “إن الوباء وفر للحكومات الدكتاتورية والديمقراطية على حد سواء، فرصة للتعسف وإساءة استخدام القرار وتقليص الحريات المدنية”. هل يمكن أن نسمح باسم حماية الصحة العامة بانتهاك حقوقنا الأخرى؟ وهل باسم التعبئة الجماعية والانخراط المواطِن في خطط دولنا، من أجل مكافحة هذا الوباء سنغمض أعيننا عن الخروقات الحقوقية التي تمس معيشنا اليومي . تبدو هذه الإشكالات عصيّة عن الاستيعاب في الوهلة الأولى، لكن الحسم فيها يجب أن يكون مرجعه مصلحة الإنسان وكرامته. ونحن نحارب هذا الوباء، ونحمي صحتنا العامة التي فضحت هذه الجائحة بنياتها الضعيفة، لا يجب أن ننسى أن هناك حقوقا أخرى لا يستقيم الحق في الصحة إلا بها. ومن بين هذه الحقوق: الحق في السكن، الحق في ظروف صحية لائقة، وفي ظروف شغل آمنة… ولا يمكن أن ندبر أزماتنا بدون الحق في الحصول على المعلومة، وبدون الحق في التعبير وانتقاد كل ما يخص السياسات والقرارات المرتبطة بها. إن الطابع الاستثنائي لهذه المرحلة، لا يعني قمع الأصوات المنتقدة والمعارضة، ولا يعني الانتقام وتصفية حسابات مرحلة ما قبل الوباء، ولا يعني كذلك ضرب الحقوق والحريات، وهو ما حاولت حكومتنا فعله للأسف، مع مشروع القانون الأخير الخاص بمواقع التواصل الاجتماعي . قالت مديرة برنامج التكنولوجيا في منظمة العفو الدولية: “يمكن للتكنولوجيا أن تلعب دورا مهما في الجهد العالمي لمكافحة الوباء، ولكن هذا لا يمنح الحكومات تفويضا مطلقا لتوسيع عملية الرقابة الأمنية”. إن التعبئة الجماعية وانخراط المواطنين والمواطنات في خطة الدولة من أجل تدبير هذه الأزمة والخروج منها بأقل خسائر ممكنة، لا يعني التصفيق للانتهاكات الحقوقية وضرب الحريات والحقوق الإنسانية. لا يجب أن تنتهك التدابير الاستثنائية، وتقييد بعض الحريات مثلا حرية التنقل، كرامة المواطن. كذلك هذه التدابير لا يجب أن تتسرب للنظم التشريعية، ولا أن تخرج عن طابعها الاستثنائي لتصبح قاعدة عامة . ولا يمكن، أيضا، أن نصمت عن تزايد معاناة بعض الفئات في سياق الحجر، والتي تحتاج في هذه الظرفية الإنسانية لدعمنا وتضامننا، وكذلك انخراطنا الجماعي في الدفاع عن حقوقها . فمناهضة العنف الأسري والدفاع عن الحق في السكن للأشخاص في وضعية صعبة، والتحدث عن وضعية غير المغاربة المقيمين فوق التراب الوطني، والترافع من أجل ظروف شغل آمنة للنساء والرجال الذين يشتغلون في القطاع غير المهيكل، والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، ومناهضة العنف والتمييز الموجه لبعض الفئات على رأسها المثليات والمثليين، والمتحولات والمتحولين جنسيا، النساء المشتغلات في مجال الجنس، العاملات الزراعيات…..وغيرها من الحقوق الأخرى ليس ترفا فكريا ولا نوعا من “اللوكس”_luxe النضالي. الدفاع ونقاش الحقوق الإنسانية لم يكن يوما مسألة ثانوية، سواء أكان السياق عاديا أو استثنائيا، والحق في الصحة لا يستقيم دون ضمان الحقوق الأخرى ودون احترام كرامة المواطنات والمواطنين . لقد أثبت هذا الوباء أن الاستثمار في الخدمات الأساسية واحترام الحقوق الإنسانية هما الكفيلان بضمان مصير آمن وعادل للإنسانية جمعاء. وهذا وحده يجعل من حقوق الإنسان الوعاء الدائم والضامن لحماية حياة الأفراد والمجتمعات.