التفكير والاشتغال أثناء الحدث دائما ما يؤثر على القرارات والمخرجات، لهذا دائما ما يجب استحضار ثقافة التوقعات الاستشرافية لبرمجة أي عمل استراتيجي، فلا طالما كانت هناك توصيات وأبحاث من أجل امتلاك نخبة قادرة على وضع مخططات تحتوي وتنظم الحياة في شقها العادي أو الطبيعي، وكذا في شقها الاستثنائي. بخطاب واضح؛ المغرب اليوم يعيش حالة استثنائية مفاجئة وغير معتادة في الأوساط المجتمعية، لكن عنصر المفاجئة لا يجب أن يمتد إلى المخططات لأنها ملزمة بتوقع أي شيء، وتهيئ الشروط والمقومات لأي شيء. فنحن اليوم نُساءل على مدى احترامنا وتدريسنا لعلم قائم في إدارة الأزمات، الذي نحتاجه اليوم؛ بكفاءات وطنية ونخب محلية قادرة على تدبير الوضع الاستثنائي الذي يعيشه بلدنا بتقنية تدبيرية محكمة. على أي؛ إن السؤال المطروح اليوم هو مدى دستورية الحد من الحقوق والحريات، أي هل المغرب كان مستعدا دستوريا لهذا الوضع الاستثنائي الذي نعيشه، من أجل تنظيم الحقوق والحريات بمنطق التقييدات والحد منها ؟ لابد هنا من التذكير بالإشادة التي تلقتها المملكة المغربية في إطار التدابير التي اتخذتها للحد من هذا الوباء، وخير ما كتب في هذا المستوى أن المملكة المغربية ضحت باقتصادها من أجل شعبها، وهذا يظهر بالملموس من خلال مجموعة من الإجراءات والتدابير. لكن تصويبا لهذا؛ فالمغرب لم يضح باقتصاده لأن هناك علاقة تكامل بين حقوق الأفراد والاقتصاد، وبه فالعنوان الصحيح هو أن المغرب أعطى الأولوية للإجراءات الإنسانية على الإجراءات الاقتصادية، وهذا فعل دستوري موثق في تصدير دستور 2011، الذي نص على أن المملكة تؤكد وتلتزم بتوسيع وتنويع علاقات الصداقة، والمبادلات الإنسانية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية مع كل بلدان العالم، من خلال قراءة نسقية لهذا الالتزام الدستوري المغربي، نجد أنه سبّق المبادلات الإنسانية عن ما هو اقتصادي، وهذا تأكيد واضح على الطموح الإنساني للوثيقة الدستورية. كما أن هذا الطموح يستلزم ما هو اقتصادي أيضا، وهذا ما نلمسه كذلك من خلال التدابير الاقتصادية المتخذة، خصوصا ما يتعلق باحداث الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا –كوفيد 19-، دعم المقاولات، وكذا استشراف الصناعة المغربية مرحليا من خلال عدة اختراعات، بالإضافة إلى التدابير الضريبية وتلك المتعلقة أيضا بالقروض، إلى غير ذلك. ومن أهم التدابير القانونية التي اتخذتها الدولة المغربية، لتأطير هذه الإجراءات الإنسانية والاقتصادية، هي ما يتعلق بإصدار مرسوم بقانون رقم 292. 20. 2 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها. و مرسوم رقم 293. 20. 2 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا –كوفيد 19. استند هذا المرسوم بقانون على ثلاثة فصول من الدستور، الفصل؛ 81، 21 و 24 (الفقرة الرابعة)، انضباطا لإشكالية الدراسة، سنتجاوز الفصل 81 لارتباطه بالإجراءات، وسنقف عند الفصل 21 و 24 المنتميان إلى الباب الثاني من الوثيقة الدستورية المتعلق بالحريات والحقوق الأساسية. بداية، نسجل ملاحظة حول فصل دستوري كان من الأفضل استحضاره في هذا المرسوم بقانون، والمتعلق بالفصل 20 الذي ينص على أن؛ الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان. فهذا الفصل يؤكد على التدرج الأهمياتي للحقوق والحريات رغم تعددها واختلافها، إلا أن الحق في الحياة يضل أولهم وأهمهم، ويمكن له دستوريا أن يحد ويقيد باقي الحقوق والحريات، انضباطا بذلك لقاعدة أنه بدون ضمان الحق في الحياة لا يمكن ضمان أي حق، وجميع الحقوق والحريات تأتي بعد الحق في الحياة. وقد استند المرسوم بقانون أيضا إلى الفصل 21 الذي ينص على أنه؛ لكل فرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه، وحماية ممتلكاته. وتضمن السلطات العمومية سلامة السكان، وسلامة التراب الوطني، في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع. ويستفاد من هذا الفصل أن الدستور يضمن للفرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه، بصيغة علاقة ترابط أو في إطار جماعة، مما يعني أن السلامة الشخصية مسألة تتعلق بالروابط العائلية والمجتمعية وليست مسألة تتعلق بالفرد لوحده، وهذا ما يعني؛ أنه يجب أن ننضبط لإجراءات الطوارئ الصحية ونتحمل مسؤوليتنا بمنطق التفكير في الجماعة والمجتمع. تؤكد الفقرة الثانية من هذا الفصل على هذا التوجه من خلال نصها؛ على أن السلطات العمومية تضمن سلامة السكان وسلامة التراب الوطني، بصيغة الجمع للساكنة، لأن السلامة لا يمكن أن نحققها للفرد بمعزل عن فرد أخر، أي أن السلامة حس مشترك. كما أن هذا الإجراء لا يمكن ضمانه لمنطقة دون أخرى، وهذا ما أكدته الفقرة من خلال نصها على أن السلامة تمتد على مستوى التراب الوطني. كنا نأمل أن يكون تفسير هذا الفصل الدستوري ممتدا إلى الإنسان والتراب العالمي، وأن نضمن بذلك السلامة والأمن العالميان، إلا أن الملاحظ في هذه المرحلة، هو أن التنسيق الدولي بين مختلف دول العالم يعرف نوعا من الحجر السياسي بدوره. كما أن المرسوم بقانون استند على الفقرة الرابعة من الفصل 24 التي تنص على أن؛ حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون. صحيح أن هذه الفقرة تضمن للجميع حرية التنقل، إلا أنها لم تنص على ممارسة هذه الحرية بشكل اطلاقي زمانا ومكانا، وإنما وفق القانون. بمعنى أن هذه الحرية تمارس انسجاما والقانون المنظم لها، ونحن اليوم أمام قوانين جديدة واستثنائية في تنظيم حرية التنقل. والمادة الأولى من المرسوم بقانون تؤكد على أن؛ حالة الطوارئ الصحية تعلن كلما كانت حياة الأشخاص وسلامتهم مهددة من جراء انتشار أمراض معدية أو وبائية، وكلما اقتضت الضرورة اتخاذ تدابير استعجالية لحمايتهم من هذه الأمراض وانتشارها، تفاديا للأخطار التي يمكن أن تنتج عنها. بمعنى أن غاية الحد من حرية التنقل هو ضمان سلامة الأشخاص أي أن هذا الحد له سند مشروع، وبدون الحد من هذه الحرية سيتعرض أقدس حق للتهديد وهو الحق في الحياة بسبب غياب الحس المشترك بالوطن وسلامته وكذا استمراريته. فالانتقال الذي عرفه الدستور المغربي من خلال دسترة مفهوم الأساسية وربطه بالحقوق والحريات، يعني أننا انتقلنا إلى الكتلة الحقوقية المترابطة فيما بينها، ويمكن أن نجد نوعان من الترابطات؛ ترابط ايجابي مشروع ؛ أي أن هناك بعض الحقوق والحريات تستدعي حقوقا أخرى، فالحق في التعبير مثلا يستدعي ضرورة دسترة الحق في المعلومة والطباعة والنشر والمراسلات ...إلى غير ذلك. كما يوجد ترابط سلبي مشروع ؛ والمتمثل في أن بعض الحقوق يمكن أن تحد من ممارسة حقوق أخرى، فالحق في الحياة مثلا يمكنه أن يحد من حرية التنقل والتجمهر لضمان هذا الحق المقدس بوعي مسؤول وحس مشترك. إن هذا الحس المشترك أو التضامن ليس مسألة أخلاقية وفقط، بل يجد سنده أيضا في الوثيقة الدستورية. بحيث نجد أن الفصل 37 يؤكد على أنه؛ "على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون. ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات". فممارسة الحقوق والحريات بدون التحلي بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة تعني فوضوية الحقوق والحريات. كما أن الدستور المغربي كان واقعيا منذ مرحلة تأسيسه، فيما يتعلق بحماية الوطن والدفاع عنه في المراحل الاستثنائية، معتبرا أنها مسؤولية الجميع ولا يمكن تحقيقها إلا في إطار الحس المشترك والتضامن في ذلك. وهذا ما أكد عليه الفصل 38؛ من خلال نصه على أنه؛ "يساهم كل المواطنات والمواطنين في الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية تجاه أي عدوان أو تهديد". وأكد الفصل 40 ذلك، من خلال تنصيصه؛ "على الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد". وبه يتضح أن الدستور المغربي انتقل من فلسفة العقد الاجتماعي إلى فلسفة التضامن الاجتماعي، فاليوم نحن أمام مسؤولية التحدي الوطني لتجاوز المرحلة وإنجاحها بأقل الأضرار، وكذا أمام مرحلة التأكيد للعالم على الإجماع الوطني ووحدته، وإعادة إثبات أو نشر صورتنا التي لا طالما كانت مرسومة عبر التاريخ بألوان التضامن وتحمل المسؤولية.