“نغوغي واثيونغو”، الكيني، هو واحد من أبرز أدباء إفريقيا اليوم، إلى جانب النيجيريين وولي شوينكا وتشنوا أتشيبي، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل للآداب. تشهد كتاباته المختلفة والمتنوعة، في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، على انتصاره للقارة السمراء وإنسانها المستضعف وهوياتها المهمشة وثقافاتها المهملَة. في هذا الكتاب: “تفكيك استعمار العقل”، يدافع “واثيونغو”، بالتزام وشغف كبيرين، عن فكرة استعمال اللغات والأسماء الإفريقية في الفكر والأدب والسياسة وتخليص أشكال التعبير وأنماط الحياة من مخلفات الاستعمار، حتى تتفكك أنظمة الإمبريالية ويتحقق الاستقلال الكامل. رفضت اللغات الإفريقية أن تموت. وأبت ببساطة أن تقتفي طريق اللاتينية لتصبح مستحاثات ينقب عنها علم الآثار اللغوي ويصنفها ويجادل فيها في المؤتمرات الدولية. ظلت هذه اللغات، هذا الموروث الوطني الإفريقي، حية بفضل المزارعين، الذين لم يروا أي تناقض بين التكلم بلغاتهم الأم والانتماء إلى جغرافيا وطنية أو قارية أوسع. لم يروا أي تناقض تنازعي ضروري بين الانتماء إلى جنسيتهم المباشرة، وإلى دولتهم المتعددة القوميات على امتداد الحدود التي رسمها مؤتمر برلين، وإلى إفريقيا ككل. كانت هذه الشعوب تغمرها السعادة وهي تتحدث “الولوف” أو “الهاوسا” أو “اليوروبا” أو “الإيبو” أو العربية أو “الأمهارية” أو “الكيسواحيلي” أو “الجيكويو” أو “اللوو” أو “اللوهيا” أو “الشونا” أو “النديبيلي” أو “الكيمبوندو” أو “الزولو” أو “اللينغالا” دون أن تقطع هذه الحقيقة أوصال الدولة المتعددة القوميات. وأظهرت خلال الكفاح ضد الاستعمار قدرة غير محدودة على الالتفاف حول أي قائد أو حزب ينافح عن الموقف الأفضل والأكثر ثباتا ضد الاستعمار. فالبورجوازية الصغيرة، الوكيلة خصوصا، بفرنسيتها وإنجليزيتها وبرتغاليتها، ومنافساتها التافهة، وشوفينيتها العرقية، هي التي شجعت هذه الانقسامات العمودية حد الحرب في بعض الأحيان. لا، لم يشعر المزارعون بعقد تجاه لغاتهم والثقافات التي تحملها! في الواقع، عندما تبنى المزارعون والطبقة العمالية لغة السيد بداعي الضرورة أو التاريخ، فقد أفْرَقوها خارج ذلك الاحترام لأصلها الذي عبر عنه “سنغور” أو “أتشيبي”، حتى إنهم خلقوا لغات إفريقية جديدة، مثل “الكريو” في سيراليون أو “البيدجين” في نجيريا، تدين بهوياتها لقواعد اللغات الإفريقية وأوزانها. فهذه اللغات جميعها ظلت حية في الخطاب اليومي، والاحتفالات، والصراعات السياسية؛ وفوق هذا كله، في مخزون الخطابة الغني- الأمثال، القصص، الأشعار، الأحاجي… أفرز المزارعون والطبقة العمالية في الحضر مُغنين تغنوا بالأغاني القديمة أو ألفوا أغاني جديدة تجسد التجربة الجديدة حول المصانع والحياة الحضرية، وحول نضال الطبقة العمالية وتنظيماتها. إذ دفع هؤلاء المغنين باللغات إلى أقاصي جديدة، يجددونها ويقوونها باشتقاق كلمات وتعبيرات جديدة، ويشيعون على العموم قدرتها على إدماج أحداث جديدة في إفريقيا والعالم. وأفرز المزارعون والطبقة العمالية كُتّابهم، أو استقطبوا إلى صفوفهم وهمومهم مثقفين من بين البورجوازية الصغيرة، كتبوا جميعهم باللغات الإفريقية. فهؤلاء الكتاب، أمثال “هاروي والدا سيلاسي” و”جيرماكاي تاكلا هواريات” و”شعبان روبرت” وعبداللطيف عبدالله وإبراهيم حسين و”يوفراز كيزيلاهابي” و”ب. ه. فيلاكازي” و”أوكوت بيتيك” و”أ. س. جوردن” و”ب. مبويا” و”د. أ. فاغونوا” و”مازيزي كونين” وغيرهم كثير، هم الذين أثنى عليهم “ألبرت جيرارد”، وكان محقا في ذلك، في دراسته الرائدة حول الأدب في اللغات الإفريقية من القرن العاشر إلى اليوم، الموسومة ب”آداب اللغة الإفريقية” (1981)، التي أعطت لغاتنا أدبا مكتوبا. من هنا، صار خلود لغاتنا في المطبوع مضمونا، رغم الضغوط الداخلية والخارجية لطمسها. ففي كينيا، أود أن أنبه إلى “جيكارا وانجاو”، الذي سجنه البريطانيون عشر سنوات بين 1952 و1962 بسبب كتاباته ب”الجيكويو”. فقد نشر كتابه “موانديكي وا ماو ماو إثاميرويويني”، وهو عبارة عن يوميات احتفظ بها سرا وهو رهن الاعتقال السياسي، ضمن منشورات “هاينمان كينيا”، وفاز بجائزة “نوما” سنة 1984. إنه عمل قوي، يوسع مدى النثر في لغة “الجيكويو”، ويعد إنجازا يتوج العمل الذي بدأه سنة 1946. لقد عمل وهو يعاني شظف العيش، وضنك السجن، عزلة ما بعد الاستقلال عندما بسطت الإنجليزية نفوذها في مدارس كينيا من الحضانة إلى الجامعات، وفي جميع مناحي عالم المطبوعات الوطنية، لكن إيمانه لم يضعف أبدا بإمكانيات لغات كينيا الوطنية. إذ ألهمته حركة الشعب الكيني الجماهيرية المكافحة ضد الاستعمار، خاصة الجناح المناضل الملتف حول “ماو ماو” أو جيش الأرض والحرية الكيني، الذي أعلن زمن حرب العصابات الحديثة في إفريقيا سنة 1952. فهو خير مثال عن أولئك الكتاب الذين أفرزتهم الحركات السياسية الجماهيرية الناتجة عن صحوة المزارعين والطبقة العمالية. وأخيرا، برزت من رحم البورجوازية الإفريقية الصغيرة، الناطقة باللغات الأوروبية، قلّة رفضت الانضمام إلى جوقة أولئك الذين قبلوا ب”المنطق القدري” لموقع اللغات الأوروبية في كينونتنا الأدبية. وكان من هذه القلة “أوبي والي” الذي سحب البساط من تحت الأقدام الأدبية لأولئك الذين تجمعوا في مؤتمر “ماكيريري” سنة 1962، حين أعلن في مقالة نشرت في مجلة “ترانزيشن” (10 شتنبر 1963) “أن القبول غير النقدي العام بالإنجليزية والفرنسية كقناة حتمية للكتابة الإفريقية المتعلمة هو قبول مضلِّل، ولا يتيح أي فرصة لتقدم الأدب والثقافة الإفريقيين”، وأن الكتاب الأفارقة سيظلون يسيرون في طريق مسدود إلى أن يقبلوا أن أي أدب إفريقي حقيقي يجب أن يكتب باللغات الإفريقية: “إن ما نود أن تخصص له المؤتمرات المقبلة حول الأدب الإفريقي الوقتَ هو أم المشكلات في الكتابة الإفريقية باللغات الإفريقية، بكل متطلباتها لتطوير حساسية إفريقية حقيقية”.