“نغوغي واثيونغو”، الكيني، هو واحد من أبرز أدباء إفريقيا اليوم، إلى جانب النيجيريين وولي شوينكا وتشنوا أتشيبي، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل للآداب. تشهد كتاباته المختلفة والمتنوعة، في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، على انتصاره للقارة السمراء وإنسانها المستضعف وهوياتها المهمشة وثقافاتها المهملَة. في هذا الكتاب: “تفكيك استعمار العقل”، يدافع “واثيونغو”، بالتزام وشغف كبيرين، عن فكرة استعمال اللغات والأسماء الإفريقية في الفكر والأدب والسياسة وتخليص أشكال التعبير وأنماط الحياة من مخلفات الاستعمار، حتى تتفكك أنظمة الإمبريالية ويتحقق الاستقلال الكامل. كان الأدب في البداية- في عالم التحرر الوطني الديمقراطي الثوري لما بعد الحرب المعادي للاستعمار في الصين والهند والانتفاضات المسلحة في كينيا والجزائر واستقلال غانا ونيجيريا واقتراب أخرى من تحقيق ذلك- جزءا من تلك الثورة العظيمة ضد الاستعمار والإمبريالية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وجزر الكاريبي. إذ استلهم الصحوة السياسية العامة، واستمد قوته، بل وشكله، من المزارعين؛ من أمثالهم وخرافاتهم وقصصهم وأحاجيهم وأقوالهم الحكيمة. وانبجس بالتفاؤل. بيد أنه في وقت لاحق، عندما تأمَّر القسم الوكيل بالسلطان السياسي وعزز روابطه الاقتصادية مع الإمبريالية، بدل أن يضعفها، فيما كان يمثل بوضوح ترتيبا استعماريا جديدا، أصبح هذا الأدب، أكثر فأكثر، نقديا، ساخرا، خائبا، لاذعا وفاضحا في نبرته. وكاد يكون متفقا في تصويره، بدرجات متفاوتة في التفصيل والتأكيد ووضوح الرؤية، على خيانة أمل ما بعد الاستقلال. لكن لمن كان يوجه لائحته بالأخطاء المرتكبة والجرائم والمظالم المقترفة والشكاوى المهمَلة، أو دعوته إلى تغيير الوجهة الأخلاقية؟ إلى البورجوازية الإمبريالية؟ أم إلى البورجوازية الصغيرة الحاكمة؟ أم إلى الجيش، وهو نفسه جزء لا يتجزأ من تلك الطبقة؟ لقد نشد جمهورا آخر، هو أساسا جمهور الفلاحين والطبقة العمالية أو ما كان يتصور عموما أنه الشعب. إذ انعكس البحث عن جمهور جديد ووجهات جديدة في البحث عن أشكال أبسط، في تبني نبرة مباشرة أكثر، وفي دعوة مباشرة إلى الفعل في الغالب. كما انعكس في المحتوى، حيث صار الآن، يحاول إتيان بعض التحليل الطبقي وتقييم المجتمعات الاستعمارية الجديدة، بدل أن يرى في إفريقيا كتلة لا متمايزة من السواد المضطهد تاريخيا. لكن هذا البحث مازال مقيدا بأغلال لغات أوروبا التي بات الدفاع عن استعمالها الآن أقل حماسة وثقة. هكذا، لجم الخيار اللغوي نفسه هذا المطلبَ، حيث لم يستطع، وهو يتحرك نحو الشعب، سوى أن يرتقي نحو ذلك القسم من البورجوازية الصغيرة- الطلبة والأساتذة والوزراء مثلا- التي مازالت تحافظ على صلتها بالشعب. أقام هناك، يراوح الخطى، سجين السياج اللغوي لإرثه الاستعماري. ومازال ضعفه الأكبر كما كان دوما، يكمن في الجمهور؛ أي في قارئة البورجوازية الصغيرة المرتبطة تلقائيا بالخيار اللغوي نفسه. ذلك أن البورجوازية الصغيرة تنمّي بنية نفسية متأرجحة، بسبب موقعها الاقتصادي غير المحدد بين الطبقات المتصارعة المتعددة. إنها أشبه بالحرباء، حيث تصطبغ بلون الطبقة الرئيسة التي تقترب منها وتتعاطف معها أكثر. إذ يمكن أن تدفعها الجماهير إلى النشاط في زمن المد الثوري، أو تنجرف إلى الصمت والخوف والمجاراة والارتداد إلى تأمل الذات والقلق الوجودي، أو تتعاون مع القوى السائدة في زمن المد الرجعي. وفي إفريقيا، ظلت هذه الطبقة تتأرجح بين البورجوازية الإمبريالية وعناصرها الاستعمارية الجديدة الحاكمة بالوكالة من جهة أولى، وطبقة المزارعين والعمال (الجماهير) من جهة ثانية. إذ انعكس انعدام الهوية هذا، من حيث بنيتها الاجتماعية والنفسية كطبقة، في الأدب ذاته الذي أنتجته؛ حيث ضُمِّنت أزمة الهوية في ذلك الانشغال نفسه بالتعريف في مؤتمر “ماكيريري”. ففي الأدب، كما في السياسة، بدت هوية هذه الطبقة أو أزمة هويتها كأنها هوية أو أزمة هوية المجتمع ككل. ذلك أنها أضفت على الأدب الذي أنتجته باللغات الأوروبية هويةَ الأدب الإفريقي كأن لم يكن ثمة أبدا أدب باللغات الإفريقية. إلا أنه غدا واضحا، بتفاديها التصدي الحقيقي لموضوع اللغة، أنها كانت تلبس فساتين هوية مزيفة، وتدعي من غير حق صريح بالتربع على عرش التيار الأساس في الأدب الإفريقي. لقد حاول ممارس ما سماه “يانهاينز يان” بالأدب الإفريقي الجديد أن يتغلب على المعضلة بالإصرار المفرط على أن اللغات الأوروبية هي لغات إفريقية بالفعل، أو بمحاولة أَفْرَقة استعمال الإنجليزية أو الفرنسية، بينما يتحقق من أن إدراكها كإنجليزية أو فرنسية أو برتغالية مازال ممكنا. في هذه العملية، خلق هذا الأدب، على نحو زائف، بل عبثي، طبقة مزارعة وعمالية ناطقة بالإنجليزية (أو الفرنسية أو البرتغالية)، وهو نقض أو تزوي واضح للعملية التاريخية والواقع. إذ أنيطت هذه الطبقة المزارعة والعمالية الناطقة بلغات أوروبية، التي لا توجد سوى في الروايات والمسرحيات، في أوقات معينة، بعقلية حائرة والتأمل الذاتي المراوغ والشرط الإنساني القلِق وجوديا، أو بوضع الرجل الممزق بين عالمي ازدواجية البورجوازية الصغيرة. في الواقع، لو تركت اللغات الإفريقية برمتها لهذه الطبقة، لتوقفت عن الوجود- مع الاستقلال!.