اخترت في «كرونيك» هذا الأسبوع أن أخوض تمرين الكتابة «الظريفة/ الخفيفة»، سأحاول الابتعاد عن هذا الجو الجنائزي الذي يعتم النفس والفكر معا، فكأننا نعيش تسخينات ما قبل القيامة، ونحن نترقب المستقبل القريب من نافذة عدد الحالات اليومية التي أصيبت بعدوى كورونا المستجد، أو رحلت عن عالمنا بسببه. هذا «القاتل» المجهري السادي يتلذذ ربما، وهو يراقبنا نتوجس من مقابض الأبواب، وأكياس التبضع، والأشخاص الذين يقتربون منا دون احترام لمسافة الأمان.. الأمان من زائر ثقيل الوطأة لا نبصره، قد يهجم علينا من حيث لا ندري، من قطعة نقدية لا تتجاوز قيمتها عشر سنتيمات استوطنها الفيروس الذي يخشاه حتى من يمتلك صلاحية الضغط على الزر النووي. بعد اليوم لن نتحدث فقط، عن أثر الفراشة، حيث خفقة جناحي فراشة باليابان قد تتسبب في إعصار بكاليفورنيا، سنتحدث كذلك عن قانون «أثر الخفاش»، حيث رذاذ متناثر من أنف طفل صغير قد يتسبب في انهيار اقتصاديات عملاقة، وخسارة رؤساء لكراسيهم. كنت بدأت بوعد أن أخوض تمرين الكتابة «الظريفة الخفيفة»، وها أنا أضبطني متلبسا بجرم الثقل الذي يجثم على سرير الوقت المتناهي البطء في الزمن الذي كنا نعده الأسرع في التاريخ. ماذا لو كان قدرنا أن تصبح الكمامة ضرورة فيما تبقى من حياة على هذا الكوكب السائر نحو فنائه، بفعل العمى البشري؟ وكمثل الأحذية والقمصان والساعات اليدوية، ستدخل الكمامات إلى تاريخ الصراع الطبقي، كمامات الأثرياء لن تشبه كمامات البروليتاريا وعموم الكادحين، كما لا تتشابه الطبقتان في أي من بيانات آخر الشيوعيين، وفي لغة التفاخر اليومي سنبتدع «الكمامة السينيي» و»الكمامة الإيميتاسيون». في الديربي البيضاوي، سيضع الرجاويون كمامات خضراء، فيما الوداديون سيرفعون أهازيجهم خلف كمامات حمراء، ولنا أن نتخيل لاعبا يخلع كمامته بعد تسجيله هدفا، فيتلقى ورقة صفراء. في الأسابيع الثقافية بالجامعات، ستبيع الفصائل الطلابية كمامات بألوان العلم الأمازيغي، أو الكوفية الفلسطينية، أو كمامات حمراء يتوسطها منجل ومطرقة صفراوان. في متاجر الألبسة، سيتم عرض الكمامات بألوان حسب «الطوندوس». وسنقتني الكمامات «الأسوغتي» مع ربطة العنق أو غطاء الرأس أو التنورة. وطبعا، ستظهر كمامات مضادة للبلل خاصة بموسم الصيف. ولأن أحمر الشفاه لن يعود مرغوبا فيه سوى في المنازل، ستتراجع مبيعاته مقارنة بالكحل أو باقي مستحضرات التجميل الخاصة بالعينين، وربما ستتفتق عبقرية المنتفعين من ميل النساء نحو «الزينة» على ابتداع طرق لتزيين الأذنين اللتين تحملان شريطي الكمامة. وستصبح لآذان النساء خاصة ألوان تنسجم مع الكمامة. ستبدأ قصص الحب من خلال الإعجاب بالعينين والأذنين فقط، وسيطلب العشاق من بعضهم البعض صورا بدون كمامات عبر تطبيقات التراسل الفوري. سيتجادل الفقهاء في أحكام التقبيل بالكمامة، أحرام هو أم مكروه؟ وعن حق المتقدم للخطبة في النظر لخطيبته دون كمامة. وبعد سنوات طويلة سيدرس التلاميذ عن الإنسان ما قبل الكمامة، وسيستغربون لصورنا السابقة في المجال العام، سينظرون لنا كما نتخيل نحن الإنسان القديم عاريا أو بقطعة جلد أو فرو فقط.. تجدر الإشارة في الختام أن معاجم اللغة العربية القديمة كلها تفيد أن الكمامة توضع على فم الدابة لكي لا تعض أو لا تأكل ما لا ينبغي لها أكله، فهل ستمنعنا الكمامة من «العض» و»أكل ما لا ينبغي لنا أكله»؟