من نافل القول أن فيروس كورونا أحزن العالم، وأظهر أن كل تهاون أو لعب معه ينتهي بموت من يتجرأ على ذلك. لكن، بقدر ما تسعى البشرية إلى مواجهة هذا القاتل بالعلم وبالحجر الإرادي والقسري، تواجهه بالسخرية أيضا. والحقيقة التي لم تعمل كورونا سوى على تأكيدها، هي أن إنسان ما بعد الحداثة أصبح حيوانا ساخرا، يستعين على تفكيك وتبديد كثير من اليقينيات التي كانت، حتى عهد قريب، من أسس التفكير الحداثي، مثل العقل، وفاعلية الذات، ومركزية الإنسان… بالسخرية منها ومن الذات الفردية والجمعية التي مازالت تعتقد في تفوقها وتقول بتعاليها. وبتعريف الفيلسوف عبد السلام بنعبد العالي، في سياق تمييزه بين السخرية «المتواضعة» والتهكم الذي «ينمُّ عن إحساس بالقوة»، فإن «السّخرية هي فنّ السطوح والانثناءات. إنها ما به «تتسطّح» الأعماق وتتهاوى الأعالي، ليبرز سموّ السطوح وعمقها، ويفتضح الوقار الكاذب للفكر الذي يأبى أن يشغل باله بتوافه الأمور، فلا يولي كبير اهتمام للعابر الزائل المتبدّل، ويظل عالقا بالثوابت، وما كان من الموضوعات سامياً «شريفاً»…». لقد نجحت «سطحية» تكنولوجيا التواصل الاجتماعي في تسييد عولمة ساخرة، بديلة عن التهكم الهوياتي الساعي إلى التفوق ومحق الآخر؛ فبالقدر الذي تصلنا آخر الأخبار والدراسات حول كورونا، تصلنا، وبشكل أكثر وأسرع، أخبار وتعاليق تسخر، بلا حدود، من ترامب وبوتين وماكرون والسيسي وابن سلمان.. كما تسخر من العلوم والأديان والشعوب.. في ما يشبه سلطة يبدأ حكمها وينتهي عند التعرية والضحك على التناقضات. لقد سجل الصحافي فرانسوا رينار، في مقال له ب«Le Nouvel Observateur»، كيف سخر رواد الويب، بشكل كبير، من مسؤولة أمريكية، بعدما ظهرت في شريط فيديو وهي تنصح الناس بتجنب لمس وجوههم، قبل أن تقوم هي بتبليل أصبعها بلسانها وهي تحاول قلب صفحة من الأوراق التي كانت تقرأ منها. إن مضمون الخطاب الذي كانت هذه المسؤولة تريد إيصاله إلى مواطنيها وإلى العالم أصبح غير ذي قيمة، ليس فقط أمام السلوك النقيض الذي «دكَّت» به ما «حرثه» خطابها، بل أمام حملة السخرية التي جرفتها. لقد تصيدها رواد الويب ضمن ما يتصيدونه، يوميا، من سياسيين، ليس للتهكم عليهم باعتبارهم أشخاصا، فقط، بل لتبخيس جهودهم، والتشكيك في حسن نواياهم، بما أصبح يعكس وجها من أوجه أزمة الديمقراطية الليبرالية، خصوصا أن سخرية الويب، هذه، تترتب عليها، وتبرز، بالموازاة معها، أشكال متعددة من رفض السياسة وتدني المشاركة فيها، دون أن تقدم بدائل ومخارج للأزمة. لماذا؟ لأن السخرية قوة تفكيك لا قوة اقتراح. ولعل ما يجعل هذا الضحك الجمعي يبقى «ضحكا ذهبيا»، بتعبير فريديريك نيتشه، رغم ما قد يبدو عليه، أحيانا، من انزياح نحو التهكم، هما أمران اثنان. أولا، لأن هذا الضحك لا يُعلي من هوية على حساب أخرى، بقدر ما يسخر من الشعوب والثقافات، بما فيها تلك التي يصدر عنها. ثانيا، لأنه حتى في تهكمه على المسؤولين السياسيين، لا يفعل ذلك لأن هؤلاء السياسيين لهم أشكال وخِلْقاتٌ غريبة -وإن كان يوظفها أحيانا- بل لغرابة وفداحة سياساتهم ومواقفهم. إن هذه السلطة الأفقية للسخرية، وهي لا تقيم اعتبارا لأي موضوع مقدس أو شخص موقر أو حدود مغلقة، تنتعش أكثر في فترات الأزمة، وهي اللحظات التي يضعف فيها أصحاب السلطة السياسية والاقتصادية والعلمية ويرتبكون، وهنا ينزاح الضحك، أحيانا، من سخرية نقدية إلى تهكم ناكئ، لا يفرمله شيء وهو يحول شخصيات ذات مسارات ومصائر مختلفة إلى مادة للتنكيت. فالأمير تشارلز، الذي كان ينتظر تتويجا (Couronnement) طال انتظاره، قبل أن يصاب بفيروس كورونا، سيجري تقويله بالفرنسية، في لعب واضح بالكلمات: «Je suis enfin couronné» (لقد أصبت أخيرا بكورونا). وإلياس العماري، الذي يجاهد ليمحو عنه صفة رجل البنية العميقة لحزب السلطة، ما إن نشر مقالا عن كورونا، يقول فيه إن «الشرعيات المتوارثة والشرعيات المستمدة من الدين بدأت تعرف تراجعات ملحوظة»، حتى وجد نفسه بين مطرقة «السلطة» التي نزلت عليه، ليقوم بحذف المقال من الموقع الذي خصَّه بنشره، وسندان التفاعلات الساخرة والمتهكمة، حيث سأله أحدها: «أنت لم تتوقع نهاية مسارك السياسي المبكر، فكيف تتوقع نهاية أنظمة ما؟». على هذا المنوال، أيضا، ستجمع السخرية المغربية بين القايدة حورية، رمز السلطة الجديد في المغرب، وبين الدكتاتور كيم جونغ أون، رمز الاستبداد المطلق في العالم، على قاعدة أن مدينة آسفي وكوريا الشمالية خاليتان من فيروس كورونا. هذا الشكل من السخرية بقدر ما يثير الضحك، يثير، أيضا، سؤالا جديا مفاده: هل كانت السلطوية، سواء في شكلها الكاريكاتوري المضحك مع القايدة حورية، أو الكاريكاتوري المرعب مع كيم جونغ، تحمي من الجوائح، أكثر من مجتمعات المؤسسات والحقوق والحريات؟ لكن التراث العربي، وفي مقدمته ألف ليلة وليلة، يسعفنا بمحكيات ساخرة عن وقائع مشابهة، منها أن أميرا قام يخطب في قومه، فقال: «منذ أن ولَّاني الله عليكم لم يصبكم الطاعون»، فوقف شيخ من بين الحضور وقال: «إن الله أرحم من أن يجمع علينا مصيبتين؛ أنت والطاعون».