يجتاح فيروس كورونا العالم دون أي اعتبار للحواجز أو الحدود. يمضي هذا المرض القاتل متحديا التطور العلمي والطبي، ليذكرنا بأن مزيدا من التطور والترابط بين البشر في سياق العولمة بقدر ما يحمل من فرص، فهو قد يشكل في الآن نفسه مصدرا للتهديدات التي تكون مصدر خوف للناس، بل مصدر تهديد لبقائهم. بعبارة أخرى، بقدر ما أسهمت العولمة في توثيق الترابط والاتصال بين الشعوب والدول، فقد جعلت إمكانية تعميم وانتشار المخاطر والتهديدات الصحية والأمنية وغيرها ممكنة ويسيرة، ولعل الفيروسات القاتلة، وأحدثها اليوم فيروس كورونا المستجد، دليل قوي على ذلك، فهو يجتاح بسرعة كبيرة دول العالم، سواء المتقدمة منها أو تلك التي تسير في طريق النمو، بل يمكنه أن يصيب دول العالم ككل في يوم واحد، فقط بسبب تداخل وترابط حركة النقل الجوي والبحري والبري. خلال الثلاثين سنة الماضية، ظهرت عدة فيروسات، مثل سارس، إيبولا، ثم كورونا المستجد، وهي فيروسات تتميز بأمرين على الأقل؛ الأول أنها ذات مصدر حيواني في الغالب، فالفيروسات الثلاثة المشار إليها انتقلت من الحيوانات إلى البشر، بما في ذلك كورونا الذي تفيد تقارير متواترة، في هذا السياق، بأن مصدره سوق للحوم في مدينة «ووهان» الصينية، ويطرح معطى المصدر الحيواني لتلك الفيروسات السؤال حول مستوى الحماية التي نتوفر عليها في نظامنا الغذائي وأمننا الصحي؛ يتعلق الأمر الثاني بسرعة انتشار هذه الفيروسات عبر العالم، فالترابط بين الدول يؤكد أنه بات من المستحيل منع انتشار الأمراض الوبائية، ويطرح هذا المعطى تساؤلا آخر، حول مدى انخراط وأهلية بلادنا للتصدي للفيروسات المعدية، باعتبارها تهديدا أمنيا للاستقرار وللأمن الصحي، وهذا التساؤل مبعثه الشعور بأن حكوماتنا المتعاقبة انشغلت، خلال العقدين الماضيين، بالصحة بوصفها خدمة عمومية أساسا، بالنظر إلى النقص الذي اعترى السياسات المتوالية في هذا القطاع طيلة عقود، وذلك مقابل إهمال أو تأجيل الاهتمام بالمخاطر الصحية التي تفرضها الفيروسات القاتلة، مثل إيبولا وكورونا وغيرهما، والدليل على ذلك أن التدابير التي تعلنها وزارة الصحة ذات فلسفة وقائية أساسا، ولا نعرف شيئا عن دور بلادنا في تطوير معرفة علمية وطبية حول هذه الفيروسات، سواء حين تصدت ل«إيبولا»، أو وهي تعلن اليوم التصدي لفيروس كورونا. يبدو لي أننا نحتاج إلى مقاربة تتجاوز ما هو قطاعي/مرفقي، إلى تبني الأمن الإنساني، لعلها تكون المدخل المناسب للتعاطي مع الفيروسات والأمراض الوبائية باعتبارها تهديدات للأمن الإنساني.. هذا المفهوم الذي يعتبر الصحة من أبرز مجالاته، وعلى اعتبار أن الأمن الصحي بإمكانه أن يوفر ولو الحد الأدنى من الحماية من الأمراض الفتاكة، وتقليص مخاطر الظروف غير الصحية التي قد تساعد في تفشي الأوبئة. إن التغلب على الأوبئة والفيروسات الفتاكة يقتضي التركيز على أمن الناس قبل أي شيء آخر، وتحريرهم من الفقر والخوف والجهل، والتي تعد، دون أدنى شك، سببا في تفشي وانتشار كثير من الأمراض المعدية. في عالم اليوم، يكاد يكون مستحيلا التفكير في بناء الحواجز، وتكثيف وسائل المراقبة، لأن دورها سيظل محدودا لسببين على الأقل؛ الأول حجم الترابط في ظل العولمة، والذي لم يعد يسمح لأي دولة بأن تعزل نفسها عن باقي دول العالم. ويكمن السبب الثاني في إهمال بناء الإنسان، فالفقر والجهل والخوف، إن لم تكن مصادر للأمراض، فهي عوامل مغذية ومشجعة على انتشارها وتفشيها. إنه مدخل رئيس بالنسبة إلى بلادنا على الأقل، في ظل نظام دولي يزداد أنانية وتصلبا، ولم يهتد بعد إلى نظام صحي عالمي يمكنه أن يردع هذه التهديدات العابرة للحدود، وفي مهدها.