كشف المسؤولون عن تدبير وتقنين المشهد الإعلامي السمعي البصري في المغرب، عن حجم التحديات والمخاطر التي ينطوي عليها التحول الرقمي الذي يعرفه العالم، ومعه المغرب، سواء في مجال السيادة أو الديمقراطية أو الاقتصاد أو الثقافة… وأوضحت كل من رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، لطيفة أخرباش، والرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، فيصل العرايشي، وعي أصحاب القرار بضرورة ملاءمة الممارسات والسياسات العمومية، مع الواقع الجديد الذي تفرضه التكنولوجيا الجديدة، لحماية المصالح الوطنية وتجنيب المجتمع التهديدات التي ينطوي عليها هذا التحول. أخرباش قالت في افتتاح ندوة دولية نظمتها الهيأة حول موضوع “تقنين وسائل الإعلام في منظومة رقمية، نقالة واجتماعية؛ متطلبات التأقلم ورهانات إعادة التأسيس”، يومي الخميس والجمعة الماضيين، إنه وأمام حجم وسرعة وعمق التحولات الناجمة عن الثورة التكنولوجية الرقمية، “لم تعد هيئات تقنين الإعلام الوحيدة التي تعيش وضعية استنفار وتأهب. فقبلها، تساءل فلاسفة وعلماء اجتماع وأخصائيو العلوم العصبية، عما إذا كان الولوج إلى الأنترنيت واستعمالها، قد أدى إلى بزوغ شكل جديد للوجود الإنساني، والذي يمكن أن نصطلح عليه الوجود الرقمي”. وأضافت أخرباش أن هيئات تقنين الإعلام والاتصال في انشغالاتها واهتماماتها، “ليست في منأى عن هذا التساؤل الغني بالمعاني والدلالات، بل يمكن اعتبار هذا التساؤل مرجعا ومصدر استلهام لها. لأن للتقنين مرامي وأهدافا ديمقراطية بحتة”. من جانبه، الرئيس المدير العام للقطب العمومي للإعلام السمعي البصري، فيصل العرايشي، قال في إحدى ورشات الندوة، إن مستجدات كثيرة دخلت حياة المغاربة، أهمها الهاتف الذكي “الذي يجعل كلا منا معزولا في عالمه الخاص، نسافر في المكان والزمان ونلتقي بعوالم ووضعيات أخرى، ونصادف أخبارا زائفة ونواجه كمية كبيرة من المعلومات”. وأضاف العرايشي أن الأثر الثقافي للمضامين الجديدة التي بات المغاربة يستهلكونها، يطرح سؤال الطابع المركب الذي أصبحت عليه ثقافة المغاربة، “حيث أصبحنا أمام أجيال تغيرت بشكل كبير هويتها الثقافية، وهذا معطى مهم يجب أخذه بعين الاعتبار، لأن هناك جيلا سابقا وجيلا جديدا تعتبر الأنترنت معطى طبيعيا بالنسبة إليه، وبالتالي فإن القيم التي طورناها قبل الأنترنت ليست بالضرورة نفسها في عصر الأنترنت”. وشدّد العرايشي على أن من الخطأ اعتبار العالم الذي يعيشه الشباب عبر الأنترنت عالما افتراضيا، “بل هو الواقع بالنسبة لجيل من الشباب، وهم يرونك ويحكمون عليك انطلاقا من هذا العالم الذي نعتقده نحن افتراضيا”. واعترف المسؤول الأول عن قنوات الإعلام العمومي في الإذاعة والتلفزيون، أن الإعلام التقليدي كان في السابق يحدد إيقاع حياة الناس، “حيث كنا نفتح التلفزيون ونتابع البرمجة المتوفرة للبرامج كما هي. وأول ما ينبغي تسجيله الآن هو أن الغالبية الساحقة من المغاربة اليوم يشاهدون التلفزيون عبر الساتل، والبث الأرضي هو مجرد أداة لحماية السيادة والتواصل مع المواطنين في حال انقطع البث عبر الأقمار الاصطناعية”. تحديد إيقاع الحياة هذا انتقل من يد الإعلام التقليدي إلى سلطة المتلقي، حسب العرايشي، ف”نحن الآن نختار برامجنا بناء على ما يهمنا بغض النظر عن القناة التي تبثها، وبالتالي فعلى المسؤول على وسيلة الاعلام الكلاسيكية أن يواجه تحديا يوميا، خاصة في التلفزيون، أوله كيف نحافظ على مشاهدينا عبر ملاءمة عرضنا”. تحدّ قال العرايشي إن السبيل إلى رفعه هو التمكن من إقناع الشباب بمشاهدة الإعلام التقليدي باستعمال الشبكات الاجتماعية والتطبيقات. مهمة لا مفر لإنجازها، حسب العرايشي دائما، إلا بالاستعانة بجيل جديد من الشباب يمكنه أن يتواصل مع هذا الجمهور المستهدف بلغته وأسلوبه، “فالفرق بيني وبين شاب من الجيل الجديد هو أن الشاب حين نضع الهاتف الذكي بين يديه سيكون متقدما مقارنة بي رغم معرفتي المهنية الكبيرة، لأنه يتعامل مع الجهاز بشكل تلقائي ودون حاجة إلى تفكير وتخطيط مسبق، وبالتالي إذا لم نقم بتوظيف مكثف لشبان في الإعلام التقليدي ليجيبوا عن انتظارات أقرانهم، سنخلف موعدنا مع التغيير”. من جانبها، رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، لطيفة أخرباش، قالت إن هيئات التقنين منكبة على هذه القضايا عبر تقنينها لمضامين وسائل الإعلام المسماة كلاسيكية، وهي “مدعوة بالنظر للزحف الرقمي على المنظومات الإعلامية، إلى مراجعة مقارباتها وتجديد مناهجها وإعادة ترسيم مجالات عملها”. ورغم وجود نماذج لبعض هيئات التقنين الأوربية التي حاولت مواكبة التحولات الرقمية الجارية، إلا أن معظم الأسئلة مازالت عالقة، حسب أخرباش، ف”على مستوى بعض الدول التي صادقت على قوانين تهم على سبيل المثال محاربة ترويج الأخبار الزائفة والتضليلية وخطاب الكراهية عبر الوسائط الرقمية، طفت على الواجهة انشغالات جديدة، فضلا عن تلك المتعلقة بنجاعة عمل هيئات التقنين إزاء سطوة الفاعلين الرقميين العابرين للحدود”. وتساءلت رئيسة ال”هاكا” عما إن كان الحل الأنجع هو التخفيف من صرامة التقنين، مقابل تشجيع وتقوية التقنين الذاتي والتقنين المشترك؟ مشددة على أن الديمقراطية لا يمكن أن تشتغل بطريقة سليمة بدون مواطنين مطلعين وعلى بينة بفضل وسائل إعلام، جديدة أو كلاسيكية، حرة، تعددية وأخلاقية. و”في هذا الإطار بالضبط، تدرج هيئات التقنين مهامها الأساسية ومنهجها الخاص لتلمس السبيل نحو نموذج تقنين، مُبتكَر من جهة، حتى يكون بمقدوره مواكبة المعطى الرقمي الجديد، وثابت من جهة أخرى، حتى يبقى ملتزما بدعم حرية التعبير والقيم الديمقراطية للتعددية، والتنوع وحقوق الإنسان والعيش المشترك”.