شهد المغرب، في الفترة الأخيرة، حملة اعتقالات مكثفة طاولت مواطنين وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب تدوينات أو تسجيلات أو أغاني «راب» اعتبرت كلماتها مسيئة لمؤسسات الدولة ورموزها. وانتهت أغلب هذه الاعتقالات التي شملت تلامذة مدارس في ريعان العمر بصدور أحكام قاسية، بلغت، في حالاتٍ، ثلاث سنوات وأربعا سجنا نافذا. وهو ما حدا بائتلاف حقوقي مكون من عدة ناشطين حقوقيين إلى وصف هذه الاعتقالات ب «الحملة القمعية»، بعد أن تم رصد عدد المتابعين فيها، والذين بلغ عددهم 17 ناشطا، تم اعتقالهم والحكم عليهم بسبب تعبيرهم عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقول المدافعون عن حقوق الإنسان إن الغرض من هذه الاعتقالات هو تخويف مستعملي شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصا أن السلطة لجأت إلى القانون الجنائي لمعاقبة هؤلاء المدونين، وليس إلى قانون الصحافة، على اعتبار أن الأمر يتعلق بحرية الرأي والتعبير. بينما تعتبر السلطة أن الأمر يتعلق بحالات منعزلة لأشخاصٍ تجاوزوا ما يسمح به القانون في مجال حرية الرأي والتعبير، عندما تطاولوا على مؤسسات الدولة ورموزها. ولعل من إيجابيات هذه الاعتقالات أنها أبانت، من جديد، عن حيوية المجتمع المدني المغربي،وخصوصا المجتمع الحقوقي الذي يقود حملات مناصرة تجد لها صدى كبيرا في وسائل الإعلام، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، كان جديدها إطلاق عريضة تطالب بمغرب بدون معتقلين سياسيين عام 2020. وتأتي هذه الاعتقالات الجديدة فيما لا يزال في السجون معتقلو «حراك الريف» وصحافيون، وهو ما دفع هيئات حقوقية إلى دقّ ناقوس الخطر، محذّرين من الانتكاسة الحقوقية الكبيرة التي يتجه نحوها المغرب، الذي عرف كيف يعبر مرحلة الربيع العربي بأقل الخسائر، خصوصا بعد وعود السلطة بإصلاحات سياسية واقتصادية، يبدو اليوم أن الهدف منها كان ربح مزيد من الوقت والالتفاف على مطالب الشارع آنذاك، فبعد تسع سنوات على الحراك الشعبي الذي شهده المغرب، تبخرت وعودٌ كثيرة أطلقتها السلطة، خصوصا في مجال محاربة الفوارق الاجتماعية والمجالية. وأدى هذا الوضع إلى اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، واضمحلت الطبقة الوسطى التي كانت تشكل صمام أمان يحافظ على استقرار المجتمع. وأكثر الفئات التي تضرّرت من هذا الوضع هم الشباب الذين يشكلون نحو 75% من ساكنة المغرب. ومقابل هذا الانحباس على المستوى الاجتماعي، عملت السلطة، طوال السنوات التسع الأخيرة، على تمييع الحقل السياسي، سواء بدعم أحزاب موالية لها بدون قاعدة سياسية، أو ضرب أحزاب أخرى ذات مصداقية داخل المجتمع، ومحاصرتها والتضييق عليها، ما أدّى، في النهاية، إلى فقدان المواطن الثقة في العمل السياسي، وفي كل ما ينتج عنه، وبلغ الأمر اليوم فقدان الثقة حتى في مؤسسات الدولة التي أصبح المواطن المغربي ينظر إليها خصما له، بدلا من أن تكون في خدمته. وكانت حالات التصادم الكبير بين الدولة والمجتمع هي التي عرفها المغرب سنوات 2016 و2017، والتي شهدت ما سمّي «الحراك الشعبي»، الذي عمّ أكثر من منطقة في شمال المغرب وشرقه وجنوبه، وكان أكبره هو «حراك الريف». وقابلت السلطة كل هذه الاحتجاجات بمقاربة أمنية قاسية، أدّت إلى إخماد الاحتجاجات الشعبية من دون أن تجد حلا لأسباب اندلاعها التي ما زالت كامنة تهدّد بالانفجار في كل لحظة. وأمام هذا الوضع المتأزم، وجد شباب، خصوصا في المدن والأحياء الفقيرة، أنفسهم محاصرين ما بين وضع اجتماعي مزرٍ وقمع يمنعهم من التظاهر للمطالبة بحقوقهم، فكان لجوء بعضهم إلى وسائل التعبير والتواصل الجديدة، سواء بالتدوين أو تسجيل فيديوهات تبث على «يوتيوب» أو من خلال أغاني «الراب»، للتعبير عن إدانتهم أوضاعهم الاجتماعية والظلم الذي يتعرّضون له بلغة بسيطة ومباشرة يفهمها أترابهم، ويتفاعلون معها بسرعة وبقوة. وأمام حالة الرفض الجديدة، لجأت السلطة من جديد إلى الحل الأسهل، وهو المقاربة الأمنية التي نجحت في كبح الحراكات الشعبية، وفي تدجين الساحة السياسية، وفي تكميم الإعلام المستقل، والآن تحاول بسط يدها على مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن هذه الحلول، حتى وإن كانت ناجعةً في تدخلاتها السريعة، ولكن لا شيء يؤكّد أنها نجحت، وتبقى فاعليتها مرحليةً، لأن دينامية المجتمعات متحرّكة ومتطوّرة تنتج، في كل مرحلة، عناصر مناعتها ومقاومتها مواجهة ما تصفه السلطة بالعنف الشرعي. ولكن، كما تعلمنا تجارب التاريخ، الدول لا تتأسس فقط، على العنف، حتى لو كان شرعيا، إذ لا بد من القانون الذي يضمن للمواطن حقّه ويصون له كرامته. وأغلب حالات الاعتقال السياسي اليوم في المغرب هي لمواطنين خرجوا للمطالبة بحقوقهم أو للتعبير عن إدانتهم الظلم الذي سلب منهم حقوقهم، فوجدوا أنفسهم محرومين من حريتهم. حالات الاعتقالات الحالية في المغرب هي تعبير عن حالة احتقان عميق داخل المجتمع، لا يمكن التعاطي معها دائما بالقمع، حتى لو كان شرعيا، لأنه سيأتي اليوم الذي يستنفد فيه القمع سلطته الرمزية، ويفقد كل مبرراته الأخلاقية، عندما يؤدي إلى عزل السلطة عن الناس والتأسيس لدولة الاستبداد التي تقوم على القمع، وليس على القوة والإقناع، وهذا ما سيجعلها هشّة ومعرّضة دوما للفردانية والتسلط.