حَملت الزيارةُ الملكية لتونس جملةً من الدلالات، يمكن تركيزها في جانبين اثنين متكاملين: جانب سياسي، يؤكد الدعمَ المغربي لبلد شقيق، شكّل منطلق الحراك العربي، وهو الآن يجهد من أجل إنجاح توافقه على المشروع المجتمعي الجديد، وإرساء بناء المؤسسات الديمقراطية الضامِنة لاستقراره واستمراره، ثم جانب اقتصادي مَسّ أكثر المجالات أهميةً واستراتيجية في العلاقات الثنائية المغربية التونسية، أي الأمن، والصناعة، والسياحة، والتعليم، والتكنولوجيات الجديدة(...) من يُمعن النظر في السياق الذي تمت الزيارة الملكية في نطاقه، يُدرك، دون شك، الدلالات التي حملتها هذه الزيارة، والقيمة المُضافة التي انطوت عليها. فقد جاءت في لحظة تصاعد موجة العنف والتطرف واشتداد عمليات الإرهاب، التي ما انفكت تضرب مواقع حساسة من الأمن الوطني التونسي. كما تمت في وقت يُنذر بتفاقم أزمة الأمن الإقليمي في المنطقة المغاربية، بسبب ما يجري على الأرض الليبية، ونتيجة اشتداد الإرهاب في دول الساحل والصحراء. لذلك، تكون الرسالة الأبرز في الزيارة الملكية، والخطاب المُلقى أمام كل مكونات الطيف السياسي التونسي، هي أن الانتصار على التطرف والعنف، ومن ثمة النجاح في التنمية والبناء، مشروع جماعي، يشترك فيه الجميع، ويتقاسم مسؤولية إنجازه الجميع، وتعود خيراته على الجميع. وفي هذا الصدد، يُفهم لماذا شكل الحديث عن المشروع المغاربي أحد المفاتيح المفصلية في الخطاب الملكي. فالتصدي للإرهاب وكل أشكال التطرف، لا يتأتى إلا في إطار عمل جماعي، كما أن التنمية لا تستقيم وتُنتج آثارها إلا بالجميع، ومن أجل الجميع..والجميع هنا هو الفضاء المغاربي المشترك، الذي ظل مشروعا مترنِّحا، ولم يتحول بعد إلى ضرورة استراتيجية واعية، وقيمة مشتركة بيد الدول والمجتمعات. ومن هنا أيضا، نُدرك الدعوة الملكية المتجددة لإعادة تأسيس المشروع المغاربي على فهم جديد، ينطلق من معاهدة 17 فبراير 1989، ويُعيد صياغتها في ضوء التغيّرات النوعية الطارئة على المجموعة المغاربية ومحيطها الإقليمي والدولي.. إنه النظام المغاربي الجديد، الذي يتوجب تشييده على قيمة الثقة، والاحترام المتبادل، والإرادة الجماعية للعيش المشترك، والتضامن والتكامل في البناء والإنجاز. ثمة مستوى آخر في الخطاب الملكي ودلالات الزيارة، يتعلق بمدى قدرة العلاقات الثنائية على دعم التكامل الإقليمي أو تعارضها معه. والواقع أن الرؤية الملكية كانت واضحة، من حيث تشديدُها على أن إقامة اتحاد متراصّ البنيان، ينطلق من علاقات ثنائية متكاملة، قوية وفعّالة. مما يعني أن حين تصدق النيات، وتتوفر الإرادة السياسية، وتكون الأهداف والمقاصد واضحة، لا تشكل ولن تشكل العلاقات الثنائية إضعافاً للعمل الجماعي، أو تحاملاً عليه.. بل بالعكس حين تنعدم هذه الروح، تتحول العلاقات الثنائية إلى سياسة محاور قاتِلة للعمل المشترك، ولعل هذا ما عانت منه تجربة التكامل الاقتصادي المغاربي ما بين 1964 و1975. لذلك، لا يمكن فهم الزيارة الملكية، بحجم وزرائها [12 وزيرا]، ووفدها السياسي والاقتصادي [ 100 شخصية]، وترسانة اتفاقياتها [ 23 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبرامج تنفيذية]، إلا في إطار هذا الأفق، وفي ارتباط مع دلالاته المادية والرمزية. صحيح أن تونس بلد محدود نسبيا من ناحية حجمه الديمغرافي وموارده الطبيعية، غير أنه بلد كبير من حيث تاريخُه، وإسهامه الحضاري، وموقعه الاستراتيجي في منظومة العلاقات الإقليمية والدولية. ثم إن لتونس أدوارا تنتظرها في سياق ما تعرف المنطقة من تغييرات نوعية في بنيانها السياسي والاجتماعي، ناهيك عن التقاربات الكثيرة التي تجمع المغاربة والتونسيين، لاسيما في مقاربة ما يهمّ فضاءهم المشترك، ويضغط على مستقبلهم. لذلك، سيمكّن نجاح الانتقال السياسي في هذين البلدين[ المغرب وتونس] من تقوية شراكتهما الاستراتيجية في الميادين الأكثر حساسية ونفعا لمجتمعيهما. ومن المؤكد أن تثبيت خطوات البناء الثنائي المشترك، وتقوية نتائجه ومكاسبه، سيمنحان المشروع المغاربي نفسا قويا ودائما، وسيحفز باقي الأطراف، إن التحقت بركب الإصلاحات ونجحت في تكريسها، على التصالح مع هذا المشروع(...)