جالست الراحل عبد لله القادري مرات لا أذكر عددها، جرني معه فيها إلى أعتم دهاليز حياته العسكرية والسياسيةوأشدها سرية وتعقيدا. حدثني عن أبرز رجالات الدولة الذين عرفهم عن قرب، وأكبر المنعطفات التي عاشها معالحسن الثاني ورجالاته، وإحدى أبرز المحطات التي عاشها مع صديق دراسة محمد السادس، فؤاد عالي الهمة،خلال مشاركته في تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة… وأعترف، والرجل الآن في دار الحق، بأنه لم يسبق لي أنحاورت أو قرأت عن شخصية سياسية مغربية حديثة بقيمة عبد لله القادري، من حيث حجم التفاصيل التي كانشاهدا عليها وحكاها بلا رقيب، والتي تعكس قوة وتشعب الفساد الذي غطى «العهد القديم» وأرخى بظلاله على«العهد الجديد». تكمن قيمة القادري، التي تميزه عن كل مجايليه واللاحقين عليه من السياسيين، في أنه قدمشهادته، من الداخل، عن تاريخ السلطوية في المغرب، باعتباره مشاركا وشاهدا وليس معارضا، ولم ينزه نفسه عنالتواطؤ، بالفعل حينا وبالصمت حينا آخر، في كثير مما شهده المغرب من اختلالات مازلنا نجتر آثارها إلى اليوم. لقدكان القادري يعترف أمامي، وأمام القراء، على نفسه قبل غيره، وكأنه في لحظة تطهير نفسي (catharsis). وكنتأمامه لا أكاد أستفيق من هول معلومة حتى تصفعني أخرى أكثر غرابة. لقد تعلمت من حواري مع الراحل عبد للهالقادري ثلاثة دروس: الدرس الأول: عنوانه «لا تحتقر شريكا لك أو شاهدا عليك». فإذا كنت تعتقد أنك نزعت منه السلطة، فإنك لن تمحوذاكرته التي يمكن أن يفجرها في اللحظة التي يحس فيها بأنه خسر كل شيء. إن ندوب الاحتقار التي تحدث عنهاحسن أوريد، نقلا عن الفيلسوف Avishai Magalit، لا تؤلم حاملها فحسب، بل من تسبب له فيها أيضا. لا يمكنتوقع قوة انفجار كيمياء الندب والمعلومة الحساسة. لقد اخترت محاورة عبد لله القادري في لحظة فقد فيها أصدقاءه الكبار في الدولة، وخسر حزبه بعد الاندماج في حزبالأصالة والمعاصرة… وقد حدست، بحس الصحافي، أن هذا الرجل لم يعد له ما يخسره للاعتراف بكثير مما خسرهالمغاربة طيلة عقود من الفساد والإفساد الناتج عن سلطوية بلا حدود. وحتى عندما عاتب القادري صديقه إدريسالبصري على البوح للصحافة بأمور تعتبر من أسرار الدولة، عاد يلتمس له الأعذار بالقول إن أغلب الذين تنكرواللبصري كان هو من صنعهم. لقد كان القادري يؤمن، وهو يقدم روايته للتاريخ، بأنه يعوض سلطة السلطة بسلطةالحكي، كما فعلت شهرزاد لتدرأ الموت عنها، لذلك قال كلمته ومضى. الدرس الثاني: عنوانه: «الاعتراف المزدوج». لقد أجريت الكثير من الحوارات الصحافية المطولة مع شخصياتسياسية وثقافية وطنية وعربية، أغلبها أثار جدلا وخلف ردود شخصيات احتجت وقدمت رواية مغايرة للتي كان يقدمهامُحاوَري. وحده الحوار مع عبد لله القادري لم يرد عليه أحد، اللهم إذا اعتبرنا الدعوى، التي رفعها ضده فؤاد عاليالهمة، ردا. فلماذا ابتلع كل الذين «فضحهم» القادري ألسنتهم؟ لأنه كان يمارس الاعتراف المزدوج، اعترف علىنفسه قبل غيره. اعترف بأنه بعدما كان يرأس وحدة العتاد في الجيش، أصبح يمونه بالمعدات، وجنى ثروة كبيرة منذلك. اعترف بأن الدولة أسست أول حزب انتمى إليه (التجمع الوطني للأحرار) وزورت الانتخابات لصالحه. اعترفبأن الدليمي والبصري أسسا الحزب الذي سيصبح أمينا عاما له، وأن الحسن الثاني اختار له اسم الحزب الوطنيالديمقراطي. اعترف بأنه طلب من المحجوب بن الصديق أن يوقف إضراب العمال في شركة الدليمي، فاستجاب. واعترف بتفاصيل محرجة للدولة في تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، جرَّت عليه الويلات… الدرس الثالث: عنوانه «الوفاء». لقد تحدث القادري، بوفاء قل نظيره، عن أصدقائه ورفاقه المغضوب عليهم. قال إنالذين أعدموا بعد المحاولة الانقلابية الأولى أعدموا دون محاكمة، ولم يكونوا يستحقون الإعدام لأنه لم تكن هناك حجةدامغة على تورطهم، وأن المعنيين المباشرين بانقلاب الصخيرات هما اعبابو والمذبوح. وكما لو كان ثوريا غيفاريا،تحدث بافتخار عن ضابطين واجها الموت بشجاعة، على مرأى من الحسن الثاني وضيفه الملك الحسين، هما الكولونيلالعربي الشلواطي، الذي عندما كان يقاد إلى الإعدام بصق في وجهه الوزير الأول حينها مولاي أحمد العراقي،فأجابه الشلواطي بعزة نفس: «لا تبصق في وجه محكوم بالإعدام.. أنت جبان». والكومندان إبراهيم المانوزي الذيذهب إلى موته وهو يقول: «لله ينعل بوكم يا الكلاب.. غادي تشوفو فداك الدار آش غادي يطرا ليكم.. أ الخونة». تحدث القادري بوفاء نادر عن رفيقه الجنرال أحمد الدليمي ونزهه عن الخيانة، وقال إن إدريس البصري متورط فيموته. لم يتخل عن صديقه إدريس البصري بعد إبعاده عن الوزارة وشارك في جنازته، عكس كثير ممن كانوا مقربينمنه، واعتبر رفض السلطات السماح لعائلته بدفنه في مسقط رأسه «خطأ أطفال»… رحم لله عبد لله القادري وغفرله.