“العربية” فضحت القضية. هكذا علقتُ ضاحكا، وشر البلاء ما يضحك، عندما شاهدت الطريقة التي حشرت بها قناة “العربية” أنفها في قضية الصحافية هاجر الريسوني. القناة السعودية اختارت مذيعة حداثية الشكل، لتقول لنا كلام باليا، يعود إلى زمن العشيرة والقبيلة، الذي لايزال توقيت السعودية مضبوطا عليه، منذ جاهلية الشاعر دريد بن الصمة، الذي نقل إلينا، بدقة، عقلية القطيع التي لا مجال فيها للرأي المخالف، حين قال: “ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ.. غَوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ”، (غزية، هي قبيلة الشاعر). لقد وقفت مذيعة القناة السعودية، راسمة ابتسامة مكشوفة الاصطناع، وألقت كلاما يفيد أن العار لحق ب”قبيلة” الريسوني وأن “عشيرة” رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لم تجد ماء لغسل وجهها ولا ترابا لتدفنه. قالت: “فضيحة من العيار الثقيل تلاحق أحمد الريسوني، الذي نُصِّب حديثا خلفا ليوسف القرضاوي كرئيس للاتحاد القطري العالمي لعلماء المسلمين. فالريسوني، الذي لم يكمل عاما واحدا فقط في منصبه، وُضع في موقف لا يحسد عليه بسبب ابنة أخيه هاجر الريسوني التي قبضت عليها الشرطة المغربية في قضية إجهاض”. المذيعة الحداثية التي أُلقي على لسانها هذا الكلام القبلي البالي، نقلت مغالطتين مقصودتين، حول هذا الموضوع، واحدة قالت فيها إن هاجر وخطيبها اعتقلا “أثناء زيارتهما لعيادة شهيرة بممارسة عمليات الإجهاض”، والحال أن العيادة وصاحبها، الحاصل على وسام ملكي، لا سوابق لهما في إجراء عمليات الإجهاض. أما المغالطة الثانية، والتي لا تهمنا بشكل مباشر، فهي حديثها المقصود عن”الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” بصيغة “الاتحاد القطري العالمي لعلماء المسلمين”. لقد كان بإمكاننا أن نتجاهل هذه ونقول: هذا “سوق” السعودية وقطر وشأنهما في صراعهما الذي لا يعنينا كمغاربة. لكن، لماذا كل هذه الخسة والجبن في استغلال صحافية صغيرة في تصفية حسابات كبيرة بين دول وخصوم سياسيين؟ “هي هاي المرجلة”، كما قال صدام حسين، وهو يساق إلى حبل المشنقة لأحد الأقزام الذين وقفوا يتقافزون في وجهه. لقد قلتها أنا بدارجتنا المغربية، عندما رأيت صحافة التشهير الممولة والمرعية من طرف السلطة، تنهش لحم هاجر، ولا تذكر اسمها إلا مقرونا بأسماء أقارب لها اختاروا السير خارج جوقة الطبالين. “هاذي هي الرجولة” قلت؟ تصفون حساباتكم مع معارضيكم على حساب فتاة في مقتبل العمر، تحطمون حياتها، وتحولون فرحها إلى قرح وتراجيديا.. “هاذي هي الرجولة”؟ إن العقل العشائري لمسؤولي القناة السعودية قاصر عن أن يستوعب أن علاقة هاجر بأقاربها هي علاقة دموية فحسب، أما قناعاتها وأذواقها واختياراتها.. كما يعرف أصدقاؤها ومعارفها، فتقع خارج دائرة قناعات أحمد الريسوني أو سليمان الريسوني أو يوسف الريسوني، الذين لا يجمع بينهم، بدورهم، غير الانتماء إلى هذه العائلة الكبيرة. إن عائلة الريسوني ليست قبيلة “غزيَّة”، كما أن المغرب ليس هو السعودية، التي تعتبر الصحافي الخارج عن رأي “مجنون الحكم” شيطانا يستحق القتل في قنصلية اسطنبول. وإذا كان العقل السعودي أضيق من أن يستوعب قبول التنوع والاختلاف داخل الدولة الواحدة، فكيف يمكنه أن يتصوره داخل العائلة الواحدة. إن اعتقال هاجر، حتى لو اعتبرناه فضيحة، وهو أصبح بالفعل فضيحة دولية لمن اعتقلها، لا يعني أحمد الريسوني وعلماء المسلمين واتحادهم العالمي في شيء. لكن، إذا كان هذا هو حال الإعلام السعودي، فإن وكلاءه في المغرب، والذين كانوا سباقين للتشهير اللاأخلاقي بهاجر وعائلتها، يعلمون علم اليقين أن هاجر لا تبعية لها لأقاربها، ومع ذلك يربطون بينها وبينهم لضرب كل العصافير بحجر واحد، وترك السماء لغربان التشهير تنعق بلا مروءة ولا أخلاق. إن ما يؤرق “الجالية” السعودية الإماراتية في المغرب، هو أن يجد الإسلامي واليساري والليبرالي، سواء داخل العائلة الواحدة أو الوطن الواحد، أرضية للنقاش والتقارب، في استقلالية تامة عن السلطة، لذلك، فعندما اعتقلت هاجر، أطلقت “جالية” محور الثورات المضادة، كثيرا من الأذى على كل أقاربها: آذوا الفقيه الذي لم يمنعه إلقاؤه درسا حسنيا من إبداء رأي نقدي في إمارة المؤمنين، وأساؤوا إلى القيادي في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ديوان مظالم المغاربة المزعج للسلطة، وهاجموا الصحافي الذي اختار أن يكون صوتا نقديا في آخر الجرائد المستقلة في بالمغرب. إن السلطات التي اعتقلت، تعسفيا، هاجر وأطلقت إعلامها للتشهير بها وبأقاربها، كانت تفعل ذلك ولسان حالها يقول: لا يجب لهذه النماذج، المختلفة بانسجام، داخل عائلة صغيرة أن تعم وتنتشر داخل الوطن الكبير. وإذا كان قدر المغرب أن يكون متنوعا، فيجب ألا يخرج الحداثيون فيه عن ماركة حداثيي touche pas a ma bière، الذين يعتبرون أن التناقض الرئيس مع الإسلاميين، عكس الحداثيين الديمقراطيين الذين يقولون إن التناقض الرئيس مع الفساد والاستبداد. وإذا كان قدر المغرب أن يكون متنوعا، فيجب أن يكون الإسلاميون فيه على قالب الشيخ المغراوي، الذي طلب منه أن يدعم “البام” في الانتخابات، فلبى النداء، أو الشيخ الفزازي، ممثل حزب النور المصري في المغرب، والذي أصبح بوقا مبحوحا في مهاجمة منتقدي السلطة حتى وهم مكبلو الأيدي في السجون. وإذا كان قدر المغرب أن يكون متنوعا، فيجب أن تكون صحافته على منوال مناشير الزميل العامل في وزارة الداخلية. إن السعودية التي صدّرت لنا الوهابية، ها هي تصدر لنا التصحر الفكري وآليات إخراس الأصوات الحرة، وهي لا ترى فينا سوى قبيلة عربية كبيرة في أقصى المغرب.